المادة 26 من مشروع موازنة 2023 تشكّل إعفاء لأصحاب الثروات الموجودة في الخارج من الضريبة الناتجة عن الأرباح والإيرادات المتأتية منها.
إمعان في الفساد وعقلية الإفلات من العقاب في وقت تزاد فيه الضرائب والرسوم على المواطنين بحجة تغذية الموازنة وخفض العجز.
الإعفاء يحول دون إثبات الجرم الأساس للملاحقة بتهمة تبييض الأموال في الخارج وتعقب الفاسدين والمتطاولين على المال العام.
سوف يتعذر رصد ومتابعة إجراءات كشف الأفعال وملاحقة الأفراد واسترجاع الأموال المنهوبة إذا أقرت هذه المادة في الموازنة.
الذين تسببوا في الخسائر وأفقروا المجتمع، يبرّئون أنفسهم من أي مسؤولية في المشاركة في معالجة هذه الأزمة والنهوض منها.
تفاعلت القضية التي أثارتها «نداء الوطن» الجمعة الماضي في صدر صفحتها الاولى تحت عنوان: «مادة في الموازنة تعفي ثروات من ضرائب بالمليارات… ميقاتي و»الثنائي» يريدان امرار اعفاء ضريبي خطير جداً».
ويقدر خبراء الضرائب حجم التهرب الضريبي للبنانيين نافذين واصحاب ثروات موظفة في الخارج بنحو 12 مليار دولار. ويشرحون ذلك كالآتي: تخضع إيرادات رؤوس الأموال المنقولة أي عوائد الأسهم، السندات، الفوائد المصرفية… الأجنبية الممتلكة من قبل لبنانيين مقيمين في لبنان لضريبة دخل بنسبة 10% بموجب المادة 69 وما يليها من قانون ضريبة الدخل (المرسوم الاشتراعي رقم 1959/144) ولا سيما المواد 77 إلى 82. فاذا قدرنا ثروات اللبنانيين في الخارج بنحو 100 مليار دولار فقط (وهذا رقم متحفظ!) وطبقنا تلك الضريبة التي يفترض جبايتها منذ اقرار ضرورة جبايتها في 2017 فيفترض ان نحصل على 5.6 مليارات دولار (800 مليون سنويا على اساس متوسط ربح سنوي 8% مضروبة بـ 7 سنوات اي منذ تاريخ انضمام لبنان الى المنتدى العالمي للشفافية وتبادل المعلومات (Global Forum)) تضاف اليها غرامات تهرب بنسبة 100% ( اي 5.6 مليارات اضافية) مع غرامة تحصيل 1%، فيصل الاجمالي الى 12 مليار دولار، علما انه يمكن اجراء تسوية وتحصيل نصف المبلغ بسهولة كما فعل كثير من الدول في حالات مماثلة. ففي الوقت الذي ترهق فيه حكومة ميقاتي الفقراء أكثر فانها تثري الأثرياء أكثر!
بيان مشترك
هذا ما استدعى تحركاً من عدد من جمعيات المجتمع المدني وجهات حقوقية واصلاحية تحارب الفساد لاصدار بيان مشترك موقع من منظمة كلنا ارادة و الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين وجمعية الشفافية الدولية (لبنان- لا فساد) والمفكرة القانونية ومبادرة سياسات الغد، وفي ما يلي نصه:
المادة 26 من مشروع موازنة عام 2023 التي أقرها مجلس الوزراء تشكّل إعفاء لأصحاب الثروات الموجودة في الخارج من الضريبة الناتجة عن الأرباح والإيرادات المتأتية منها تجاه الدولة اللبنانية، بينما يستمرون في الإقامة بشكل رسمي في لبنان ويتجنبون تكليفهم بالضرائب بالخارج بسبب هذه الإقامة. كما تضمنت المادة نفسها عفواً عاماً لهؤلاء من جرم التهرب الضريبي.
كان مجلس الوزراء قد عمد إلى تعديل المادة 26 من المشروع المذكور، فيما كانت وزارة المالية تشددت على العكس من ذلك تماماً في التذكير بالمترتبات والنتائج القانونية والمالية الخطرة لأي تقاعس أو إخلال في تنفيذ الموجبات الضريبية ومنها الملاحقات الجزائية والحجز على الممتلكات والأموال.
واللافت أن هذا الإعفاء الذي يشمل ضرائب طائلة يأتي في الفترة التي الدولة هي بأمس الحاجة فيها إلى تأمين موارد تمكنها من إعادة سير مرافقها العامة ومواجهة الأزمة المالية والاقتصادية.
إلى أي نظام تخضع إيرادات رؤوس الأموال؟
تخضع إيرادات رؤوس الأموال المنقولة أي عوائد الأسهم، السندات، الفوائد المصرفية… الأجنبية الممتلكة من قبل لبنانيين مقيمين في لبنان لضريبة دخل بنسبة 10% بموجب المادة 69 وما يليها من قانون ضريبة الدخل المرسوم الاشتراعي رقم 1959/144 وسيما المواد 77 إلى 82.
إن السرية المصرفية وضعف المعرفة والمواطنة الضريبيتين كما وتقاعس السلطات الضريبية أفسحت المجال أمام المكلفين المعنيين بالتهرب من تسديد ضرائبهم على مدى سنوات حتى انضم لبنان في أيار 2017 إلى المنتدى العالمي للشفافية وتبادل المعلومات (Global Forum)، ووقع على المعاهدة المتعددة الأطراف (MAC) لإعطاء المعلومات غب الطلب كما والاتفاقية المتعلقة بالسلطات المختصة (MCAA) التي اعتمدت مبدأ التبادل التلقائي للمعلومات (automatic exchange ) بين الدول الأعضاء على أساس قاعدة سنوية ومعايير موحدة للبيانات المالية، وهي تتضمن عدم التذرع بالسرية المصرفية للحؤول دون تسليم السلطات الضريبية في الدول التي يمتلك فيها مقيمون في لبنان حساباتهم المعلومات كافة العائدة لتلك الحسابات.
لقد تقيّد لبنان على أكمل وجه في الممارسة بقواعد الاتفاقية ومتطلباتها بالنسبة للمعلومات المطلوبة منه من الدول الأعضاء والعائدة إلى المقيمين على أرضها الذين لهم حسابات مصرفية في لبنان. إلا أنه لم يقم بالمقابل بما عليه وبما هو لازم لتأمين الحصول على المعلومات المالية والحسابية في الخارج العائدة إلى المقيمين والمكلفين على أرضه لا بالنسبة للمطالبة بها غبّ الطلب ولا بالنسبة لإتمام خطط العمل المطلوبة منه لتلقيها بصورة تلقائية على قاعدة سنوية، مما حثّ المكلفين المقيمين في لبنان وشجعهم على الإمعان في المخالفات والبقاء غير ملتزمين بموجباتهم الضريبية.
تجدر الإشارة إلى أنه يعتبر التهرب الضريبي من جرائم تبييض الأموال بموجب القانون رقم 2015/44، وكان قد سبق للمشرع أن جرّم التهرب الضريبي بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 83/156.
هذا، ومع العلم أن آلية تبادل المعلومات الضريبية أمر بالغ الأهمية، إذ أنه يتعلق من جهة بزيادة إيرادات الدولة من خلال فرض ضريبة على الإيرادات المتأتية من توظيف الأموال المنقولة في الخارج للمقيمين في لبنان (بحيث تكون الضريبة أقل من الدول التي تم وضع المال فيها، ومن جهة أخرى، يتعلق الأمر بالملاحقة الجزائية لأولئك الذين يتهربون من تأدية موجباتهم الضريبية.
ما هي تداعيات هكذا إجراء ؟
يعتبر هذا الإجراء في حال إقراره بمثابة تخلّ من الدولة عن مردود ضريبي طائل فضلاً عن كونه عفواً عاماً مالياً طالما أنه يبرئ ذمة كلّ من مارس تهرباً ضريبياً لسنوات أو شارك فيه أو سهله أو ستر عنه. ناهيك عن أنه قد يسمح للمتطاولين على المال العام والفاسدين بالتواري والإفلات من الملاحقة في الداخل والخارج؛ وتُبرأ، بالتالي، ذمتهم من أي مسؤولية أو ملاحقة.
وتقتضي الإشارة هنا إلى أنه قد جرى بموجب القانون رقم 44 تاريخ 2015/11/26 مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب)، تجريم الحالات الموصوفة بأنها تبييض أموال بالنسبة للفاعل والمحرّض والمسهل والمشترك والمتدخل على حد سواء ومعاقبتهم جميعاً من دون تمييز بالغرامة المالية حتى مثلَي المبلغ المهرب) والعقوبة الجزائية أي الحبس من ثلاث (3) إلى سبع (7) سنوات. كما وتتم مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة التي يثبت بموجب حكم نهائي أنها متعلقة بجريمة تبييض الأموال أو محصلة بنتيجتها ما لم يثبت أصحابها قضائياً، حقوقهم الشرعية بشأنها. وفي حال تعلق الأمر بشخص معنوي متهرب ضريبياً فقد حمّل قانون الإجراءات الضريبية رقم 44 تاريخ 17/11/2008 في مادته 21، رئيس مجلس الإدارة و/أو المدير العام في الشركات المغفلة، بالتكافل والتضامن مع الشخص المعنوي وفي ما بينهم، المسؤولية الضريبة الناتجة عن عدم الالتزام عمدا بالموجبات الضريبية بما فيها قيامهم أو موافقتهم على القيام بأعمال أدت إلى التهرب من الضريبة إذا ثبت ذلك بموجب حكم قضائي.
وعليه، وفي حال جرى كما هو مخطط ومحاك له منح المتخلفين والمخالفين والمتهربين إعفاء عاماً وإبراء ذمة نهائياً وشاملاً على كل ما هو سابق للسنة المالية 2022، فقد يصعب عندها إثبات الجرم الأساس للملاحقة بتهمة تبييض الأموال في الخارج وتعقب الفاسدين والمتطاولين على المال العام وبالتالي، سوف يتعذر رصد ومتابعة إجراءات كشف الأفعال وملاحقة الأفراد واسترجاع الأموال المنهوبة.
ما هو الموقف؟
تأييد فرض الضرائب على رؤوس الأموال في الخارج. وفيما بالإمكان فتح الباب أمام إجراء تسوية ضريبية كأن يتم تقديم تخفيضات في الغرامات و/أو العقوبات، فإن ذلك يجب أن يكون مشروطاً بضمان جمع مبالغ ضريبية كبيرة وتوسيع القاعدة الضريبية بالموازاة، لا أن يكون مقترناً كما يخرج عن النص المقترح بإعفاء من الضريبة نفسها. وإذ تتنوع التقديرات حول المبالغ التي يمكن للبنان تحصيلها من خلال هذه العملية إنما من المؤكد أنها تصل إلى مئات الملايين من الدولارات على أدنى تقدير.
علاوة على الرفض الشديد لتخلي الدولة عن مواردها على هذا النحو غير المبرر لتناقضه التام مع مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة ومع مقتضيات المصلحة العامة؛ كما رفض منح عفو جرائم التهرب الضريبي كما ورد في المادة المقترحة. هذا ويرجح أن يستهدف هذا الإبراء الشامل أصحاب الثروات والنفوذ، بما يجعله بمثابة عفو عام ذاتي علاوة على كونه أبيض وغير مشروط فكأنما الذين تسببوا في الخسائر وأفقروا المجتمع، يبرئون أنفسهم من أي مسؤولية في المشاركة في معالجة هذه الأزمة والنهوض منها.
في القانون والدستور
هذا التدبير الذي يُعتبر، من حيث المالية العامة وحقوق المكلفين، بحجم قانون تخلّ عن أموال عامة وعفو عن الجرائم المالية ويقتضي بالتالي أن يكون موضوع قانون مستقل ونقاش وطني قد جرت محاولة تمريره خلسةً من ضمن أحكام وبنود واعتمادات الموازنة الحالية لتفادي ردود الفعل السلبية لدى المواطنين والنواب وتسهيل موافقتهم عليه.
وعليه، يقتضي التحذير من مغبة المصادقة على هذه المادة التي تطعن بالعدالة الضريبية ومبدأ المساواة أمام الضريبة المنصوص عنها في كل من الفقرة (ج) والمادة 7 من الدستور اللبناني «المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل»، فضلا عن كونها من فرسان الموازنة وإن أي مخالفة لهذا المبدأ الدستوري من شأنه أن يُعرّض سواء المادة أو القانون برمته للطعن والإبطال.
فضلا عن أن هكذا تساهل من شأنه ايضاً أن يطعن في المواطنية الضريبية ويساهم في تحفيز المخالفات والتهرب من الموجبات والالتزامات الضريبية، كما والإمعان في الفساد وعقلية الإفلات من العقاب؛ مما يفقد الدولة هيبتها والملتزمون معنوياتهم وإيمانهم. إذ لا يجوز تشجيع المخالفين وإبراء ذمتهم على حساب من كان ملتزماً بموجباته القانونية والوطنية إيماناً منه بأن تسديد الضرائب والرسوم يؤول بالنتيجة إلى الأمة جمعاء لتمويل حاجاتها وإعادة توزيع الثروة وتحسين أوضاع أفرادها.
وتأكيدا على ذلك، فان القرار رقم 2018/2 الصادر عن المجلس الدستوري بتاريخ 14-5-2018، بإبطال مواد عدة في قانون الموازنة العامة لسنة 2018، من بينها مادة تعفي من جزء من الضريبة على الدخل بحجة أن من شأنها «تشجيع المواطنين على التخلّف عن تسديد الضرائب المتوجبة عليهم، وحمل الذين دأبوا على الالتزام بتأدية واجبهم الضريبي على التهرب من تسديد الضرائب المتوجبة عليهم أملا بصدور قوانين إعفاء ضريبي لاحقا» وأنها فضلاً عن ذلك «تؤدي إلى التفريط بالمال العام وإلى زيادة العجز في وقت تزاد فيه الضرائب والرسوم على سائر المواطنين بحجة تغذية الموازنة وتخفيض العجز».
على ماذا نصّت المادة 26؟
في 4 أيلول 2023 أعلن المكتب الإعلامي في وزارة المالية أنه «بعدما انتهت وزارة المالية من إجراء التعديلات كافة التي أقرها مجلس الوزراء على مشروع قانون الموازنة العامة 2023، أرسلت الصيغة النهائية لمشروع القانون إلى الأمانة العامة لرئاسة مجلس الوزراء التي ستحيله إلى مجلس النواب لمناقشته وإقراره».
نصت المادة 26 منه على أنها تعفى من الضريبة إيرادات رؤوس الأموال المنقولة الأجنبية الخاضعة لأحكام المادة 82 من قانون ضريبة الدخل العائدة للسنوات 2021 وما قبل شرط أن يلتزم الأشخاص الطبيعيون والمعنويون المقيمون في لبنان الذين حصلوا على إيرادات خاضعة لأحكام تلك المادة عن العام 2022 بالتصريح عن تلك الإيرادات وتسديد الضريبة المتوجبة عليها ضمن مهلة ستة أشهر من تاريخ نشر هذا القانون، دون أن يتوجب عليهم أي غرامة تحقق أو تحصيل في حال التصريح والتسديد بالمهلة المشار إليها أعلاه. كما يستفيد أيضا من الإعفاء أولئك الذين حصلوا لأول مرة على إيرادات عن العام 2022، وكذلك الذين حصلوا على إيرادات عن أي من الأعوام 2021 وما قبل ولم يحصلوا على إيرادات عن العام 2022، واذا تبين لاحقاً أنهم حصلوا على إيرادات خلال العام 2022 فيحق للإدارة الضريبية استدراك الضرائب والغرامات عن كافة السنوات التي لم تسقط بعامل مرور الزمن.
يتوجب التقيد بأحكام المادة 82 من القانون النافذ حكماً رقم 10 تاريخ 2022/11/15 (قانون الموازنة العامة للعام (2022) لجهة التصريح وتسديد الضريبة المتوجبة بذات العملة التي تحققت فيها الإيرادات اعتباراً من إيرادات العام 2022 وما بعد.
تعتبر الضرائب والغرامات المسددة عن الإيرادات الخاضعة لأحكام المادة 82 المشار إليها أعلاه قبل نشر هذا القانون حقاً للخزينة.
وتحدد دقائق تطبيق هذه المادة عند الاقتضاء، بموجب قرار يصدر عن وزير المالية».
فرسان الموازنة
يهم التذكير بأن التمادي الإرادي المتكرر في الشروع في إدراج نصوص عديدة في قانون الموازنة (أو ما يسمى فرسان الموازنة) يقتضي أن تكون موضوع قوانين مستقلة، محاولة بذلك الاستفادة من حجم البنود والاعتمادات التي تستوجب الدرس والنقاش كما والضجيج الإعلامي الذي يرافق التصويت على الموازنة لتفادي ردود الفعل السلبية، يشكل هو أيضاً مخالفة دستورية لنص وروحية المادة 83 من الدستور المعطوفة عليها المادة 6 من قانون المحاسبة العمومية التي تنص على أن يقتصر قانون الموازنة على ما له علاقة مباشرة بتنفيذ الموازنة؛ أي تقدير الواردات والنفقات واجازتها وتوازن الموازنة. وهذا ما كرسه أيضا المجلس الدستوري في عدد من قراراته منها القرار 2018/2 السابق ذكره