لم تكن أوضاع عمال لبنان قبل الأزمة المالية عام 2019 أفضل حالاً مما هي عليه اليوم، إنما كانت أقل سوءاً على كافة الصعد. فبين تداعيات الأزمة المالية وغياب الحماية القانونية والنقابية، بات العمال مكشوفين على مختلف الارتكابات، حتى أن الغالبية منهم باتوا يعملون في ظل ظروف أقرب إلى “السخرة” منها إلى “العمل مقابل أجر لائق”.
أوضاع العمال في عيدهم
يواجه العمال في لبنان تحديات هائلة تتمثل في هزالة المداخيل وضعف الحماية النقابية وغياب التغطية الصحية والاجتماعية، مما يجعلهم عرضة للاستغلال والخضوع لظروف عمل غير لائقة. وقد زادت أوضاع العمال سوءاً بعد اندلاع الأزمة المالية عام 2019، حيث ارتفعت معدلات البطالة وتدهورت الأجور بشكل كارثي. وأكثر من ذلك، ارتفعت نسبة عمالة الظل، وهي الفئة العمالية غير المنظورة بعين القانون.
وبالنظر إلى القيمة الرسمية المتدنية لأجور العمال في لبنان، ومقارنتها مع قيمة التضخم المتزايد، تتضح صورة واقع العمال التي تلامس حد العمل بلا أجر أو السُخرة. فالحد الأدنى للأجور المعدّل حديثاُ لا يتجاوز 18 مليون ليرة شهرياً أو 820 ألف ليرة الحد الأدنى للأجر اليومي. وهي مداخيل لا تلبي الإحتياجات الأساسية للعمال وعائلاتهم.
علماً ان مستويات التضخم تشير إلى ضرورة أن يتجاوز الحد الأدنى للأجور مستوى 50 مليون ليرة. فالتضخم ارتفع حسب أرقام مديرية الإحصاء المركزي، من نسبة 2.9 في المئة عام 2019 إلى 84.9 في المئة عام 2020، ثم إلى 154.8 في المئة عام 2021، ثم إلى 171.2 في المئة عام 2022، ثم إلى 221.3 في المئة عام 2023. وهي نسب لم تنعكس على الإطلاق على أجور العمال.
فالأكلاف المعيشية لأسرة لا يتجاوز عدد أفرادها الأربعة، تحتاج شهرياً إلى نحو 52 مليون ليرة (نحو 580 دولاراً) للعيش بالحد الأدنى، حسب أرقام “الدولية للمعلومات”. ما يعني أن الحد الأدنى لسد حاجة العمال يزيد قرابة 3 أضعاف ما يحصلون عليه من عملهم. حتى أن الحد الأدنى للأجور يقل اليوم عما كان عليه عام 2019 بأكثر من النصف. إذ كان يبلغ سابقاً 675 ألف ليرة (نحو 450 دولاراً).
وبفعل الأزمة المعيشية تقلّصت الطبقات الاجتماعية، وباتت تقتصر على طبقتين اثنتين بدلاً من ثلاث. وحسب أرقام “الدولية للمعلومات”، بلغ عدد المهاجرين في العام الماضي 181 ألفاً، 70 في المئة منهم بين عمر 25 سنة و35 سنة.
علل القانون وتسخير العمال
يعاني عمال لبنان من غياب إطار قانوني فعال يحمي حقوقهم ويضمن لهم ظروف عمل لائقة. فقانون العمل اللبناني يعاني من ثغرات كثيرة، منها ما هو متعمّد، تجعل منه قانوناً عاجزاً عن توفير الحماية للعمال وضمان حقوقهم. ويُضاف ذلك إلى تشوهات في سوق العمل وغياب المساواة وتفاوت الأجور وانتهاك حقوق العمال واستغلالهم، ما يدفع الكثيرين منهم للعمل في ظل ظروف غير إنسانية على الإطلاق.
وحسب المحامية والباحثة في شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية، منار زعيتر، فقانون العمل في لبنان تشوبه الكثير من الثغرات، ولم يعد قادراً على تلبية الهدف المرجو منه. وترى زعيتر أن هناك تفاوتات واسعة النطاق في العمل وحقوق العمال، وخصوصاً ذوي الأجور المنخفضة والنساء، واللاجئين، والعمال المهاجرين، والعمال غير الرسميين والأطفال والعاطلين عن العمل. علاوة على ذلك، فإن معظم العمال يتقاضون أجورًا أقل من الحد الأدنى للأجور، نظراً لانتشار العمل غير الرسمي. ويدفع أصحاب العمل عموماُ أجوراُ منخفضة للعمال المهاجرين واللاجئين.
وتذكّر زعيتر بأن الإصلاحات التي أدخلها المشرع اللبناني على قانون العمل مؤخراً، طفيفة ولا تستجيب لضروريات واحتياجات قطاع العمل، وأبرزها الحاجة إلى معالجة البطالة المتصاعدة بين الشباب اللبناني، إضافة إلى أهمية تنفيذ توصيات منظمة العمل الدولية بشأن تطوير النقابات العمالية وظروف العمال، فضلاً عن سن إصلاحات جذرية عاجلة لإعادة تنشيط مجالس التحكيم وضمان استقلالها.
وعلى الرغم من تناول بعض التشريعات للمساواة بين الجنسين في العمل، فهي لا تزال بعيدة المنال. بالإضافة إلى ذلك، فإن تشريعات العمل لا ترقى إلى مستوى توفير العمل متساوي الفرص والوصول إلى الأشخاص ذوي الإعاقة.
وتلفت زعيتر إلى قضية بنيوية خطيرة وهي ربط بعض أوجه الحماية الاجتماعية بقانون العمل، مما يستلزم العمل رسمياً والتسجيل من أجل الاستفادة من التغطية الصحية والمعاش التقاعدي أو تعويض نهاية الخدمة. وتبرز هنا استثناءات بعض الفئات العمالية من أحكام هذا القانون.
قوى الرساميل
وحسب المكتب الإقليمي للدول العربية في منظمة العمل الدولية، تفاقمت ظروف القطاع غير المنظم والأوضاع الهشة لأكثر المواطنين اللبنانيين حرماناً، وكذلك اللاجئين السوريين والفلسطينيين المقيمين في لبنان، في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية المزرية والمتدهورة بسرعة في البلاد. وحسب مصدر من المكتب الإقليمي للدول العربية في منظمة العمل، فإن السلطات الرسمية في لبنان لا تأخذ مسائل العمال على محمل الجد، ولا تضع الرؤية الواضحة للسياسات الاجتماعية وقضايا العمال كسائر الدول، لاسيما أن سوق العمل في لبنان تسيطر عليه قوى الرساميل.
وتقول زعيتر أنه تحت ذريعة التحرر الاقتصادي وحرية التعاقد، بات هناك ضعف كبير بالحماية الاجتماعية للعمال. كما أن هناك تواطؤاً تاريخياً بين السلطتين السياسية والاقتصادية يدفع ثمنه العمال.
ولا بد من التذكير بأن نسبة العاملين في الاقتصاد غير المنظَّم، أي العمل الذي لا يخضع لتشريعات العمل الوطنية، أو لضريبة الدخل، أو الحماية الاجتماعية، أو الاستحقاقات مثل الإجازات المدفوعة، مرتفعة جداً، بحسب مسح لمنظمة العمل، وتبلغ نسبته 77.8 في المئة من مجموع العاملين في لبنان.
ويزداد الوضع سوءاً بسبب افتقار لبنان إلى نظام حماية اجتماعية يرتكز على حقوق الانسان، والنظام بصيغته الحالية له تأثير محدود في الحد من الفقر، ويميل على نحو كبير إلى حماية ذوي الدخل المرتفع.
واقع العمالة والحماية الاجتماعية المتردي في لبنان، ساهم بشكل أو بآخر بارتفاع مستويات الفقر. وتشير تقديرات الإسكوا إلى أن الفقر المتعدد الابعاد تضاعف تقريباً من 42 في المئة في العام 2019 إلى 82 في المئة في عام 2021.