دخلت أزمة لبنان المالية والاقتصادية عامها الرابع، من دون ان تلوح حلول ناجعة في الأفق. في الأثناء، اتضح جلياً هروب المنظومة الحاكمة من تحمل أي مسؤولية مباشرة، وامعانها في ارتكاب جرائم مالية خلال الأزمة أفظع مما يمكن تبيان تراكمه منذ ما بعد «الطائف».
فاعتماداً على حسابات اليوم الحكومية والخاصة بتقدير الخسائر، كان يمكن حصر «الفجوة» بنحو 35 الى 40 مليار دولار في صيف 2019. بينما نتحدث حالياً عن أكثر من 75 ملياراً. لم تتضاعف الخسائر لعدم استعجال الحلول فقط، بل على نحو متعمد في أحيان كثيرة. فما هي الجرائم المالية، ان صح التعبير، التي ارتكبت في السنوات الثلاث الماضية.
1 – عدم اقرار الكابيتال كونترول سمح بتهريب وسحب 6 مليارات دولار
مع اندلاع الأزمة، كان من الواجب البديهي اقرار قانون على جناح السرعة لضبط السحوبات والتحويلات (كابيتال كونترول) لتهدئة هجمة سحب الودائع. في تلك الأثناء، لم يكن في البنوك سيولة بالدولار إلا بنسبة 7% فقط، وذلك في الصناديق ولدى البنوك المراسلة في الخارج وغب الطلب لدى مصرف لبنان.
راوغت الحكومة والبرلمان ومصرف لبنان والمصارف، وجادل الجميع في جنس الملائكة عمداً لتطيير اي كابيتال كونترول قانوني منظم وموقت لا سيما رئيس مجلس النواب نبيه بري. ترك الجميع لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة حرية التصرف بتطبيق «كابيتال كونترول» عشوائي استنسابي سارٍ حتى اليوم.
وعمد اصحاب نفوذ ومصرفيون إلى اخراج (تهريب) أموال من البلاد تراوحت تقديراتها بين 5 و6 مليارات دولار، والرقم يشمل سحوبات هائلة الى الخزائن الخاصة في الداخل. ولدى لجنة الرقابة على المصارف الرقم الدقيق، لكنها لم ولن تفصح عنه حفاظاً على مصالح اصحاب النفوذ لا سيما السياسيين والمصرفيين الفاسدين منهم.
2 – 13 مليار دولار خرجت من الحسابات الإئتمانية وحسابات غير المقيمين
وعلى صعيد تهريب الأموال أيضاً، خرجت من الحسابات الإئتمانية المصنفة لغير المقيمين مبالغ قدرت بنحو 13 مليار دولار. هذه الودائع ليست كغيرها العادية، هي عموماً لأثرياء لبنانيين لديهم حسابات في سويسرا على سبيل المثال. ويطلبون من البنك السويسري استثمارها في فرص استثمارية لبنانية وغير لبنانية، على أن يكون الاستثمار باسم البنك لصالح عميل (مجهول باقي الهوية). تلك المليارات، لطالما استفادت من فرص الفوائد العالية في لبنان، وبعض اصحابها مقرب من اصحاب القرار، كما بينهم اصحاب قرار ايضاً، وعندما هبت الأزمة خرجت خلسة من «السيستم». وثمة من لا يحسبها ضمن خانة هروب الأموال، لأنها ليست ودائع مثل بقية ودائع المقيمين وغير المقيمين الأخرى. بيد أن قانوناً للكابيتال كونترول كان يمكن أن يحد من خروجها الى حين.
3 – تحويل 7 مليارات دولار من مصرف لبنان الى المصارف… ثم إلى الخارج
وفي الأشهر الأولى للأزمة أيضاً حول مصرف لبنان الى المصارف أكثر من 7 مليارات دولار بحجة تغطية التزامات خارجية. كان يمكن عدم تحويل تلك المبالغ لو أقر الكابيتال كونترول. إلا أن حاكم مصرف لبنان تعمد التحويل لأسباب خاصة به أيضاً، ابرزها أنه عاش (ويعيش) انكار هول سقوط ما صنعت يداه، إضافة إلى رغبته الجامحة في عدم رؤية مصارف تفلس فجأة. علماً بأن المصرف، ولمجرد توقفه عن سداد الودائع لأصحابها يدخل دائرة التعثر ثم الافلاس لاحقاً ربما. تلك المليارات السبعة التي سددت وتسدد باللولار كان يمكن أيضاً إبقاؤها في «السيستم»، لو أقر الكابيتال كونترول.
4 – 7.5 مليارات للدعم العشوائي الشعبوي المشوب بالهدر والفساد
في الموازاة، ترتب تواطؤ سياسي وشعبوي ومصرفي لصرف أكثر من 7.5 مليارات دولار على دعم سلع ومواد مثل المحروقات والأدوية والمواد الغذائية والقمح… ذلك الدعم العشوائي قام على منح تجار ومستوردين دولارات على سعر 1500 ليرة، في الوقت الذي كان فيه سعر الليرة يتدهور كل يوم أكثر. كان واضحاً آنذاك أن استغلالاً بشعاً يسري في دهاليز ذلك الدعم المشبوه الذاهب معظمه تهريباً وتخزيناً وتلاعباً بالفواتير، فضلاً عن افادة محظيين محصورين في قوائم مدعومة من هذا وذاك من السياسيين والنافذين والمصرفيين ومصرف لبنان، ووزارات الاقتصاد والزراعة والصحة والطاقة…
«تكارم» سلامة في الدعم خلال فترة كان يشعر فيها بالضغط عليه «لقبعه» من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة حسان دياب. فسايرهما كما ساير منظومة ارادت ايهام الناس انها تقف الى جانبهم للتعمية على أهوال هبوط الليرة وفجاجة احتجاز الودائع.
5 – مليارات سخية على «المنصة» لا شفافية فيها ولا جدوى حاسمة منها
مع اقتراب موعد الغاء الدعم، كما خطط سلامة ونفذ، اطلق ما يسمى «المنصة» لصرف الدولار بسعر 12 الف ليرة (هو الآن 30 ألفاً). تلك المنصة غير الشفافة، وغير المستندة الى اي نص في قانون النقد والتسليف، تستخدم لعدة اغراض منها افادة موظفين من فارق السعر بين المنصة والسوق السوداء، نزولا عن رغبة سياسيين يبيعون جمهورهم وهماً بتحصيل فتات مقابل «قبول» انهيار مداخيلهم بالليرة وحبس ودائعهم في المصارف. كما تستخدم لزوم حاجات تجار ومستوردين يربحون أيضاً من فارق سعرين بنسبة 30%، فضلا عن مضاربين ونافذين ومصرفيين ومحظيين وانتهازيين يربحون يومياً من فارق، هو عبارة عن خسارة يتكبدها مصرف لبنان.
إذ يشتري الدولار من السوق السوداء ليطرحه بسعر اقل على المنصة، كما انه يستخدم من الاحتياطي مبالغ لغرض توفير الدولارات المدعومة نسبياً.
6 – 70 ألف مليار ليرة في التداول … قنبلة موقوتة تنذر بانفجار مهول
ويعمد مصرف لبنان حالياً الى المبالغة في شراء الدولارات، حتى ان احتياطي العملات لديه يزيد ولا ينقص، كما اظهرت ميزانيته بين 15 ايلول و15 تشرين الاول. يقابل ذلك طبع هستيري لليرات. فزادت الكتلة النقدية خلال شهر 25 الف مليار ليرة حتى قاربت 70 الف مليار في مقابل 7 آلاف مليار ليرة فقط عشية الازمة. هذا الكم الهائل من الليرات قنبلة موقوتة. فاذا اشعل فتيلها، لسبب أو لآخر في سوء تقدير ضبطها، سيتجاوز سعر صرف الدولار 50 او 60 او 70 الف ليرة في فترة وجيزة.
7 – 80 مليار دولار ودائع ذابت وانخفضت قيمتها… والحبل على الجرار
في الأثناء أيضاً، عمد سلامة الى اصدار تعاميم خاصة بالسحوبات الهزيلة، وباقتطاع قسري غير قانوني (هيركات) راوح بين 70 و85%. اقتطاع على حساب المودعين ولمصلحة المصارف ومصرف لبنان لاطفاء خسائر لدى الطرفين. أما المبالغ التي تم تذويبها، حتى تاريخه، سواء في الهيركات او هبوط الليرة فتقدر بنحو 80 مليار دولار، هي نتاج هبوط رصيد الودائع الدولارية المسجلة قبل 17 تشرين وودائع الليرة التي تحولت الى دولار بعد 17 تشرين، الى جانب ودائع الليرة التي فقدت معظم قيمتها مع انهيار العملة الوطنية. وما تأخير الحلول الا عمداً لتذويب ودائع أكثر. وليسهل تيئيس من يصر واهماً على أخذ وديعته كاملة وبعملة الايداع، ويقبل مرغماً بالليلرة والشطب (بين وديعة مؤهلة وأخرى غير مؤهلة!) وتحويل ودائع الى أسهم في بنوك مفلسة او متعثرة حتى النخاع.
8 – 25 مليار دولار انتقلت من المودعين الى المقترضين لا سيما كبارهم
وفي غمرة الفوضى المالية المشبوهة، سُمح بسداد قروض بالدولار على سعر 1500 ليرة واللولار، بحجة عدم «خنق» اصحاب المداخيل المحدودة والمتوسطة المتأثرين بالأزمة. وبالنتيجة، استفاد اصحاب الثروات (أفراداً وشركات) بالدرجة الأولى، وسددوا قروضاً بعشرات ومئات ملايين الدولارات بأبخث الاثمان. فهناك نحو 1440 مقترضاً يستحوذون على أكثر من نصف التسليفات، فاذا بهولاء يزدادون ثراء بسداد القروض على 1500 واللولار. وبما أن القروض المصرفية هي من الودائع اساساً، فقد حصل انتقال للثروة من المودعين الى المقترضين لا سيما كبارهم وباجمالي 25 مليار دولار.
9 – لا يشد الخناق على المصارف لأنه شريك في تبديد 75 مليار دولار
لمناسبة الحديث عن اعادة هيكلة المصارف بقانون انجزه مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، على أن تدرسه الحكومة وتحوله الى البرلمان، يذكر أن مصرف لبنان، الذي يملك رزمة من الصلاحيات وفقا لقانون النقد والتسليف، الى جانب القانون 2/67، كان يمكنه البدء بتلك الهيكلة جذرياً منذ اليوم الأول لظهور التعثر المصرفي. لكنه آثر تمرير الوقت وتضييعه في اصدار تعاميم شكلية خاصة بزيادة الرساميل وتكوين سيولة لدى المصارف المراسلة والحث على ارجاع اموال من الخارج … وما الى ذلك من تعاميم لم ينفذ منها شيء يذكر او حاسم. والسبب، عدم رغبته في الشد على خناق المصارف، لأنه شريك كامل المواصفات في تبديد ودائع الناس بعدما شفط من المصارف اليه نحو 85 مليار دولار، لم يبق منها الا 10% فقط. اضافة الى عيشه الإنكار وابعاد الكأس المرة عن فمه وفم البنوك، كأس التصفية الحتمية، لا سيما للمفلسين.
10 – 89 مليار دولار خسائر مسجلة في بند «موجودات أخرى»
لم يبق في احتياطي العملات نظرياً الا نحو 9 مليارات دولار أو أكثر قليلاً (كان أكثر من 30 ملياراً عشية الأزمة)، علماً بأن المبلغ أقل اذا أخذنا في الاعتبار حقوق السحب الخاصة (1.13 مليار) التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد السنة الماضية. في مقابل خسائر مسجلة في بند «موجودات أخرى» بنحو 89 مليار دولار. تلك الخسائر هي الطامة الكبرى، والجريمة المالية المتمادية منذ 2002 عندما ابتدع مصرف لبنان هذا البند (موجودات أخرى) لإخفاء خسائره وتضليل الرأي العام بأن لديه احتياطي عملات هو بالحقيقة ليس احتياطياً صافياً. فمنذ 2014 يسجل ذلك الاحتياطي صافياً سلبياً تراكم حتى انفجر بوجه لبنان واقتصاده ومصارفه ومودعيه ومجتمعه بأكمله.