علي محمود العبدالله – رئيس تجمع رجال وسيدات الأعمال اللبناني الصيني
بينما تحتفل الصين بذكرى مرور 100 عام على تأسيس الحزب الشيوعي الصيني، تواصل دول العالم مراقبة تجربة هذه الجمهورية، كل من منظارها. ثمة دول تراقب بأمل، وأخرى تراقب بقلق فيما تراقب فئة ثالثة الصعود الصيني بمشاعر يختلط فيها القلق بالترقب مع الغيرة والحسد. لكن لماذا ينقسم العالم إزاء ازدهار شعب ونموّه الاقتصادي والثقافي، ولماذا قد تشعر دول عظمى بالقلق والخطر من صعود الصين إلى المركز الثاني عالميا من حيث الناتج القومي؟ عمليا يمكن الإجابة على هذا السؤال بثلاثة مقاربات تتعلق بثلاثة مراحل صينية تاريخية أساسية: تطوير الزراعة، الثورة الصناعية وأخيرا الثورة التكنولوجية الصينية، التي جسّدت انتقال الصين من التصنيع إلى التفكير والابتكار والابداع. وهو المسار الذي أثار الخوف والغضب والترقب في كل البلدان التي لطالما اعتبرت نفسها قوى لا منافس لها وأن التاريخ انتهى عندها. وبالمناسبة، سرّ الصعود الصيني الكبير هو الابتكار وخصوصا التكنولوجي. عندما تبتكر فأنت تحقق استقلالا عن الاستثمار الأجنبي، خصوصا وأننا دخلنا عصر الثورة الصناعية الرابعة الذي يُعتبر فيه “التفكير” والابتكار والإبداع خبزا يوميا في الاقتصادات الصاعدة.
خرجت الصين من القرن التاسع عشر متعبة من حرب الأفيون الأولى والثانية ضد بريطانيا، لكنها تورطت أيضا في اضطرابات داخلية ووقفت في وجه الغزو الخارجي وعانت من سلسلة من الحروب خصوصا بعد سقوط أسرة تشينغ الإمبراطورية في العام 1911. لكن عندما تأسس الحزب الشيوعي الصيني، تم تحقيق تقدم كبير في مسار لم الشمل الصيني وتوحيد البلاد خصوصا بعد اكتساب ثقة الناس. في تلك الفترة بدأت الصين الجديدة بالولادة، وتم وضع الدستور بقيادة الحزب الشيوعي، ووُضعت البلاد على سكة التقدم التدريجي الحافلة بالتحديات والاضطرابات.
وفي سبعينات القرن الماضي عندما أُطلقت بعد عهد مؤسّس الصين الجديدة ماو تسي تونغ، مجموعة الإصلاحات بقيادة الزعيم دنغ شياوبينغ، بدأت عملية تغيير اقتصادية كُبرى في ظلّ تبنّي اقتصاد السوق مكّنت القطاع الزراعي من تحقيق قفزة تاريخية. فقد مُنح المزارعون حق استغلال أراضيهم، وساهم ذلك في تحسين مستويات معيشة الناس، وازداد التنوّع الغذائي بشكل واضح. كذلك فتحت الصين في تلك الفترة الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية خصوصا بعد عودة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأميركية في العام 1979. وهذه فترة مذهلة في مسار الإصلاحات الاقتصادية الصينية، فقد تدفقت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بشكل لم يسبق له مثيل. سبب اهتمام المستثمرين في تلك الفترة كان تحديدا العمالة الرخيصة والإيجارات المنخفضة وهوامش الربح المرتفعة مقارنة بالدول الأخرى. الإصلاحات التي أجراها دنغ ساهمت في خروج ملايين الصينيين من الفقر، وتحسنت حياة مئات الملايين.
لكن الصين ما لبثت أن حققت انتقالا جريئا تجاه تطوير الصناعات، بدأت أولا بالصناعات التقليدية والعادية، ثم انتقلت تدريجيا إلى تطوير الصناعات المتوسطة. ولم يمر عقدين من الزمن إلا وكانت بدأت الصين في رحلة التحوّل إلى ما يشبه مصنع العالم. لكنها لم تكن مصنعا عاديا، بل تحوّلت إلى المصنع الذي يعتمد عليه العالم لتشغيل محرك الاقتصاد العالمي. وفي التسعينات حقق الاقتصاد الصيني قفزات مُلفتة، وسجّل مستويات قياسية، قبل أن تنضم الصين إلى منظمة التجارة العالمية في العام 2001. وبعد ذلك تم تخفيض التعرفات الجمركية المفروضة على المنتجات الصينية، وبدأت “المعجزات الصينية” بالحدوث. في تلك الفترة، انتشرت المنتجات الصينية في كل العالم. وبين عامي 2001 و2019 يمكن قياس التغيرات الحاصلة، فقد ارتفعت صادرات الصين من المعدات بشكل هائل وتحديدا من نحو بضعة مليارات دولار إلى أكثر من ترليون دولار. أما السلع الاستهلاكية فارتفعت من عدة مليارات إلى نحو 900 مليار دولار. والأمر عينه حصل مع السلع المتوسطة والأقمشة والمواد الأولية وغيرها من الصادرات. وكما في المرحلة الزراعية، ونمو الناتج الصيني من الزراعات المتطورة، لم تنظر الدول الصناعية الكبرى إلى الصين باعتبارها منافسا مُقلقا خلال نهضة القطاع الصناعي.
لكن التكنولوجيا الفائقة أو العالية التي بدأت الصين بدعم الأعمال المتصلة بها منذ العام 2007، غيّرت كل المعادلات. الشركات الصينية مثل بايت دانس (صاحبة تطبيق تيك توك)، هواوي وZTE وعلي بابا ووان بلاس وتانسنت وغيرها المئات هي خير دليل على النجاح الذي حصل.
وهذا يفسّر سبب العداء الذي بدأ بالتشكل ضد النجاح الصيني، خصوصا مع إعلان الولايات المتحدة الحرب التجارية ضد شركة هواوي، وتحذير حلف شمال الأطلسي (الناتو) من الصعود الصيني التكنولوجي. ففي نهاية العام 2019 دخل الناتو على جبهة الحرب التجارية ضد شبكات الجيل الخامس 5G التي استعرت بين الولايات المتحدة والصين، وشكلت بنداً أساسياً على في الحرب التجارية بين الطرفين. لكن في حين بدأت الإدارة الأميركية بسياسية فرض القيود التجارية وتحذير حلفائها من المخاطر تحت ذريعة الثغرات الأمنية الناتجة عن استخدام شبكات هواوي، استكمل الناتو على لسان أمينه العام ينس ستولتنبرغ الهجوم معتبرا التكنولوجيا الصينية ومن ضمنها شبكات الـ 5G وتقنية التعرف على الوجه و”انترنت الأشياء” IoT، خطرا وتهديدا لـ “الأمن العالمي”. وقال ستولتنبرغ إن التكنولوجيا الصينية “تُغيّر أساليب الحرب وتغيّر مجتمعاتنا أيضا”، معتبرا أن “نجاحنا (الناتو) يقوم على تفوقنا التكنولوجي على أعدائنا المحتملين”. هذه التصريحات رفعت حدة المواجهة بشكل كبير في الشكل والمضمون، ولم تعد المواجهة صينية – أميركية، لأن الناتو يضم حلفاء واشنطن الـ 28 في أوروبا وأميركا الشمالية. ومن الملفت للنظر قول ستولتنبرغ يومها إن الصين باتت قادرة على جمع البيانات أو Data ليس فقط من الصين، ولكن من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك من الدول الأعضاء في الناتو”. كما صوّب على خطورة تقنية “انترنت الأشياء” IoT التي حذّر من أنها تجعل دول حلف الناتو “أكثر ضعفا وتعرضا للمخاطر”.
في مرحلة تطوير الزراعة ومن ثم الصناعات الصينية لم تجد الدول الصناعية العالمية في الصين أي تهديد لها، خصوصا وأن معظم المعدات التي كانت تُصنع في الصين، كانت عمليا تكرار لتصنيع معدات متوفرة في الأسواق بجودة عالية، وما قامت به الصين هو تصنيع معدات بكلفة وبجودة أقل في العديد من الأحيان في تلك الفترة. المشكلة في الثورة التكنولوجية الصينية، هي أن الصين بدأت بـ “التفكير”، وهذا “التفكير” هو ألف باء الابتكار والابداع في عصر المعرفة الذي يرتكز إلى قوة الفكرة. كم من شركات قامت ونجحت بسبب فكرة؟ شركة واتساب التي انطلقت على يد يان كوم وبراين أكتون وبضعة موظفين، اشتراها مارك زوكربيرغ مؤسس فايسبوك عام 2014 في صفقة بقيمة 16 مليار دولار.
ولوضع التطورات في سياقها، من المفيد مراجعة بعض الأرقام والإحصاءات. في العام 2009 بلغت قيمة الصادرات الصينية التكنولوجية نحو 359 مليار دولار، وفي السنوات اللاحقة حققت هذه الصادرات تطورا مذهلا، إذ سجّلت نسب نمو تترواح بين 10 و32 في المئة، إلى أن وصلت قيمة هذه الصادرات عام 2019 إلى نحو 715 مليار دولار ونحو 322 مليارا من هونغ كونغ، بينما وصلت صادرات الولايات المتحدة في ذات الفترة إلى 156 مليار دولار. وهذا هو رأس جبل جليد الأزمة بين الصين والعالم. الدول الصناعية والتكنولوجية الكُبرى تريد من الصين أن تستمر بصناعة آلات صنع الحلوى والقهوة وأضواء شجرة الميلاد إلى الأبد، بينما الصين تندفع لقيادة شبكات الجيل الخامس والسادس، وتمهّد الطريق أمام الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية وتحليل البيانات الكبيرة التي تشكل “النفط الرقمي” الجديد للعالم.
والأكثر إزعاجا بالنسبة للدول الصناعية والتكنولوجية التقليدية المنافسة للصين، هو أن الصين عندما بدأت بالـ “التفكير” والإبداع” وتركت خلفها مسألة صناعة آلات الحلوى، لم تعد حتى تحتاج الاستثمارات الأجنبية المباشرة. فكيف يمكن أن تنافس دولة مقتدرة ومكتفية بالرساميل وبالإبداع التكنولوجي في آن معا؟
وربما لهذا السبب بالتحديد، قال الرئيس الصيني تشي جينبينغ، في كلمة له بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي، إن “زمن التنمر على الصين ولّى إلى غير رجعة”، وكأن الزعيم ماو لا زال حاضرا في روح هذه الاحتفالات، وهو الذي قاد الثورة وتأسيس الحزب الشيوعي لإيقاف التنمّر على الصين، وتحقيق الوحدة والازدهار والنمو والرخاء للشعب الصيني.