يكثر الحديث عن استقالات جديدة في مجلس بلدية بيروت، تتجاوز أسبابها فشل المجلس في أداء مهماته، لتصل إلى مناقشة ما يضعه المعترضون تحت عنوان «الغبن اللاحق بالأعضاء المسيحيين في البلدية والإنماء غير المتوازن»، وصولاً إلى المطالبة بتقسيم بلدية العاصمة إلى بلديتين أو تفتيتها إلى مجالس محلية مفروزة مناطقياً وطائفياً
لم تكن بلدية بيروت تحتاج إلى صدور مرسوم تمديد عمل المجالس البلدية الاختيارية كي يُكشف المستور، فمنذ عامين تقريباً تعيش البلدية حالة «الموت السريري» على كامل الأصعدة. خدماتياً، هي اليوم خارج الخدمة، فلا المتعهّدون المنتفعون منها لسنواتٍ طويلة يقبلون بالتنازل عن فلسٍ واحد لاستكمال ما التزموا به، ولا البلدية قادرة على استكمال تلك المشاريع، بعدما أوكلت ذلك إلى «جوقة المتعهّدين»، وقد اكتشف مجلسها، متأخراً، أنه لم يجهّز لا العناصر البشرية ولا العدّة لمواجهة يومٍ أسود كهذا.
وطوال الفترة الأصيلة للمجلس، ما قبل إعلان التمديد، لم يحرّك أحد ساكناً، وإن تحرّك أحد فلأسباب «كانت تخصّه»، على ما يقول أحد الأعضاء. وصحيح أن بعض الانسحابات حدثت بين أعضاء المجلس البلدي، إلا أنها لم تحمل «نفساً تغييرياً». والبعض يعتبر أنها كانت «أقرب إلى الشعبوية على إثر حراك 17 تشرين ولم تؤسّس لحالة اعتراضية». وقد كانت أولى المستقيلين في حينه، هدى أسطة قصقص، في عام 2019، معترضة على غياب الشفافية وتلزيم مشاريع من دون إجراء مناقصات، قبل أن تعود عنها أخيراً. وبعدها بفترة قصيرة، استقال غابي فرنيني من عضوية المجلس بحجة الاعتراض على أداء المجلس البلدي، وتحديداً في ما يتعلق بملف المحرقة. وما بين الاستقالتين، يمكن الحديث عن اعتكاف أقرب إلى الاستقالة يمارسه نائب الرئيس إيلي أندريا، الذي يحضر يومياً إلى مكتبه ويغادره ظهراً من دون المشاركة في اجتماعات المجلس أو القيام بأيّ عمل يخصّه.
وبعد صدور قرار تأجيل الانتخابات البلدية، تقدم عضوان آخران باستقالتيهما وهما جو روفايل وماتيلد خوري، على اعتبار أن «المهمة انتهت»، إذ لم يعد هناك أيّ داعٍ للبقاء مع انتهاء الولاية الأصلية للمجلس. وكان قد استبق العضوان استقالتيهما بالانقطاع عن حضور الجلسات مدة عامين كاملين، وتحديداً عقب انفجار 4 آب 2020.
«الغبن المسيحي»
ويبدو أن باب الاستقالات لم يُقفل، إذ يجري الحديث عن استقالاتٍ آتية لأربعة أعضاء: إيلي يحشوشي وراغب حداد (محسوبان على القوات اللبنانية) وجو طرابلسي وسليمان جابر (محسوبان على التيار الوطني الحر)، إلا أنها لم تُحسم بعدُ بحسب الأعضاء أنفسهم. وفي هذا السياق، يشير طرابلسي إلى أن «لا استقالة محسومة بعد ولكن ندرس كلّ الخيارات والأسباب كثيرة ومنها الاعتراض على أداء البلدية ككلّ». وكذلك الأمر بالنسبة إلى جابر الذي يعتبر أن «الاستقالات مطروحة منذ سنوات، إلا أنها ليست بالأمر الذي نسير فيه بجدّية». أما يحشوشي، فيعتبر نفسه من «الأشخاص الذين لا يفترض بهم الاستقالة، ولم نقل أصلاً بأننا سنتقدّم باستقالاتنا وإنما نناقش الموضوع».
هذه الاستقالات التي لا تزال «قيد الدرس» تأتي بعناوين أكثر وضوحاً، إذ تخطّت أزمة فشل المجلس البلدي على الصعيد الخدماتي، لتصوّب النقاش نحو العمل على إيجاد حلّ للإنماء… غير المتوازن ما بين شطري العاصمة: الدائرة الأولى والدائرة الثانية، أو ما يُصطلح على تسميته باللغة الدارجة «الشرقية» و«الغربية».
وقد انطلقت المشاورات الجدية، على صعيد الأحزاب، في إطار إيجاد صيغة تعيد للإنماء توازنه في بيروت، في ظلّ حديث عن أن «حصة المسلمين أكبر من حصة المسيحيين». ولئن كانت حسابات الحصص قد بدت أكثر نفوراً عقب انفجار 4 آب، مع المآخذ التي سجّلها «الأعضاء المسيحيون» على ضعف الاهتمام بالمتضرّرين في مناطق الرميل والصيفي والكرنتينا، من باب عدم ضغط المجلس البلدية على وزارة الداخلية والبلديات لصرف مبلغ الـ50 مليار ليرة التي أُقرّت لهؤلاء في إحدى جلسات المجلس، إلا أنها تأتي اليوم لتنبش حديثاً قديماً عن التوازن حتى في «الحصص» داخل تركيبة المجلس البلدي، والتي لا تتلاءم مع «القسمة التي كان قد نادى بها الرئيس الحريري على أساس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين».
تقسيم بيروت
إلا أن ما يختلف هذه المرة أن الحديث يُستعاد بنفسٍ تقسيمي، إذ بدأت تخرج إلى العلن طروحات عن رغبة بعض الأطراف بتقاسم العاصمة «من أجل إنماء فعّال»، على ما يروّج النائب في كتلة «الجمهورية القوية» غسان الحاصباني. وقد كان حزب «القوات» أول من بادر إلى هذا الطرح، ووضع له عدة سيناريوهات مستنداً إلى حجة تقول: «لماذا لا تُعتبر الانتخابات النيابية في بيروت على أساس دوائر تقسيماً طائفياً، فيما يُعدّ كذلك في البلدية؟».
من هنا الدعوة إلى ضرورة تنظيم التعديل الإداري في بلدية بيروت. أما كيف؟ بحسب حاصباني والذي يروّجه إعلامياً، صحيح أن بيروت مدينة واحدة ككل مدن وعواصم العالم «لا تتقسّم»، إلا أنه داخل كل العواصم والمدن الكبرى، توجد سلطات محلية منتخبة بدوائر ضيقة أو مجالس بلديات موزّعة على دوائر، على طريقة بلدية باريس مثلاً.
بحسب المتابعين، لم تعد المسألة مسألة استقالات تعترض على أداء مجلس بلدي معطّل أصلاً لأسباب كثيرة ليس أقلها الفساد، وإنما في الأهداف المطروحة. فبحسب أحد أعضاء المجلس ـــــ المسيحيين أيضاً ـــــ «لطالما كانت قضية الغبن تجاه المسيحيين ترند (موضة)»، وإنما ما تغيّر اليوم هو عودة العمل لـ«الحسّاس الطائفي»، إذ «استشعر المسيحيون أنهم باتوا أقل عدداً من المسلمين على خلاف ما هو العرف 12 بــ12»، ولذلك، يجري نقاش حاليّ «طُرحت فيه عدة سيناريوهات، منها العمل على تعديل القانون لتثبيت المناصفة، أو تقسيم بيروت إلى دوائر وتنتخب كل دائرة ممثليها أو العمل على استحداث مجالس محلية مصغّرة أو تقسيم البلدية إلى بلديتين: واحدة للمسلمين وأخرى للمسيحيين».
مقعد المحافظ؟
في الشقّ الأول من القانون، يتضمن الاقتراح «صيغة التعديل في البلديات الكبرى وليس بيروت حصراً، على سبيل المثال طرابلس وبعلبك». أما في الشق الآخر، فتشير مصادر بلدية إلى أن «السير في بلدية بيروت كما في الانتخابات النيابية دونه عوائق، خصوصاً أن أحياء بيروت هي عبارة عن 12 حياً أساسياً، وليست مناصفة، وإنما 8 بـ4، وعلى هذا الأساس، فالخضوع مثلاً للقانون النسبي يعني أن النتيجة ستكون 16 مسلماً و8 مسيحيين، وهذا لن يغيّر في الشكل شيئاً». من هنا، يجري الترويج للسيناريو الثالث: المجالس المصغّرة، في محاولة للهرب «من الأكثرية التي تتحكّم بالمجلس البلدي»، على ما يقول أحد نواب المنطقة. هكذا، يكون كل عضو مجلس بلدي من منطقة مسؤولاً عنها ويتابع احتياجاتها. في رابع الاحتمالات، يأتي الفرز ما بين بلديتين، إلا أن هذه دونها مصاعب، إذ إن التفاوض على شكل المجلس البلدي وصلاحياته، يلحقه تفاوض آخر على مقعد المحافظ، بعدما درج العرف بأن يكون رئيس المجلس البلدي مسلماً سنياً، فيما يكون المحافظ مسيحياً أرثوذوكسياً يتولى السلطة التنفيذية. وهذا يعني فتح معركة أخرى. فأيّ الخيارات أسلم؟