بعد أشهر من المفاوضات مع حملة السندات السيادية، توصّلت بورتوريكو إلى اتفاق يقضي بخفض ديونها بمقدار 24 مليار دولار من أصل 35 ملياراً. على المنوال نفسه، أعلنت الأرجنتين أنّها غير قادرة على دفع سندات تبلغ 100 مليار دولار لصندوق النقد الدولي. أما لبنان، فلا يزال غير قادر على تحديد خياره!
في دراسةٍ سابقة أجراها «بنك كندا»، تبيّن أنّه منذ عام 1960، تخلّفت 145 حكومة عن الوفاء بالتزاماتها من الديون، بمتوسط 24 حكومة متعثرة في العقد الواحد. ليس في التعثّر «حرجٌ»، إن كان أهون الشرّين بين أن تؤمّن الدول مصلحة مواطنيها، أو تبقى رهينة دائنيها. القصّة بهذه البساطة، بعيداً عن التعقيدات الاقتصادية، والهلع المُرافق للتعثّر من أن تفقد الحكومات المعنية ثقة الأسواق العالمية بها، وتُمنع من الولوج إليها، ويتم التوقف عن إقراضها. فقد أثبتت تجارب حكومية سابقة، أنّه بالإمكان العودة إلى سوق الائتمان بعد سنوات قليلة، ولا سيّما بوجود مؤسسات عالمية ومستثمرين باحثين عن سوق لاستثمار أموالهم عبر الإقراض. «المثالية» تكمن في أن تتوصّل الحكومة المتعثّرة إلى اتفاق مع حاملي سنداتها، بما يؤدّي إلى شطب الدين – أو جزء منه – أو إعادة جدولته. آخر الأمثلة على ذلك، ما حصل في بورتوريكو.
عام 2014، نشبت في بورتوريكو أزمة مالية نتيجة أسبابٍ عدّة، منها: ظهور «فقاعة العقارات»، انتهاء النموذج الصناعي القائم على التنمية، إلغاء الإعفاء الضريبي الفيدرالي لدخل الشركات، التغيرات في الاقتصاد العالمي، سوء الإدارات الحكومية، والعلاقة الاستعمارية للجزيرة مع الولايات المتحدة الأميركية… يوم الأحد، توصّلت حكومة بورتوريكو إلى اتفاق مع حملة السندات لتقليص حجم ديونها بمقدار 24 مليار دولار من أصل 35 مليار دولار، وهو ما وصفته صحيفة «فاينانشال تايمز» بأنّه خطوة أولى «للخروج من الإفلاس الذي بلغ عامه الرابع». رحلة بورتوريكو مع حملة سنداتها الحكومية بدأت في عام 2015، يوم تخلّفت عن سداد بعض الديون، لتنطلق قبل أشهر المفاوضات لشطب جزء منها وإعادة جدولة البعض الآخر. محاولة أولى سُجّلت في حزيران الماضي، حين دخلت «لجنة الرقابة المالية ومجلس الإدارة» على بورتوريكو، بنزاع قضائي للمطالبة بشطب 6 مليارات دولار من السندات التي بيعت بين عامَي 2012 و2014، وقدّمت خطة لإعادة هيكلة الدين، قائمة على دفع 64 سنتاً لحاملي سندات الالتزام العام الصادرة قبل عام 2012، وبين 35 و45 سنتاً للسندات الحديثة. لم تتوصّل يومها إلى اتفاق مع الدائنين.
تبدّلت الأمور في اليومين الماضيين، فكان الاتفاق على خفض الديون السيادية من 35 مليار دولار إلى حوالى 11 مليار دولار، بعد أن وافق حاملو السندات على خفض مدفوعات «سندات الالتزام العام». وذُكر أنّ الدائنين سيحصلون على 10.7 مليارات دولار من الديون الجديدة، مقسّمة بين سندات الالتزام العام، وسندات الرهن العقاري الصغرى، بالإضافة إلى 3.8 مليارات دولار نقداً. وسيستفيد حملة سندات الالتزام العام الصادرة بعد عام 2012، من سعرٍ يفوق السعر الذي سبق التوصل إليه في التسوية الأولى في حزيران الماضي.
على الرغم من «احتفاء» الجهات الموقّعة على الاتفاق به، واعتباره إنجازاً لاقتصاد بورتوريكو، تواجه الصفقة معارضة من حاكمة الجزيرة، واندا فاسكويز، لاعتبارها أنّ الاتفاق لن يؤدي إلى التراجع عن خفض المعاشات التقاعدية. قالت إنّه «إذا تلقى حملة السندات معاملة أفضل، فيجب أن يحصل المتقاعدون أيضاً على معاملة جيدة». في حين أنّ خوسيه كارابالو، أحد الخبراء الاقتصاديين في بورتوريكو، عبّر لوكالة «أسوشيتيد بريس» عن قلقه من أن تُهدّد الصفقة الخدمات الحكومية الأساسية وتستنزف أموال الجزيرة، «خطر الإفلاس الثاني والركود أكبر من ذي قبل».
بورتوريكو فاوضت وتوصّلت إلى اتفاق مع حاملي سنداتها الحكومية. أما الأرجنتين، فأعلنت أنّها لن تدفع «نصف سنت» من ديونها لصندوق النقد الدولي، قبل انتهاء الركود الاقتصادي. ليست المرّة الأولى التي تمرّ بها الدولة الجنوبية بهذا الاختبار، فهي عجزت سنة 2014 عن تسديد ديون خارجية بلغت قرابة 1.3 مليار دولار، بعد فشل المحادثات بين الحكومة وحاملي السندات، الذين اتُّهموا باستغلال أزمة الديون لتحقيق أرباح كبيرة. الأسبوع المقبل، تتجه بعثة من صندوق النقد الدولي إلى بوينس آيرس للتفاوض مع حاملي السندات على إعادة هيكلة ديون قيمتها نحو 100 مليار دولار، لن تستطيع الحكومة تسديدها، ويُضاف إليها تسهيلات ائتمانية تبلغ 57 مليار دولار، أجّلها صندوق النقد عام 2018.
أعلنت الأرجنتين أنّها لن تدفع «نصف سنت» من ديونها لصندوق النقد الدولي
وأعلنت نائبة الرئيس الأرجنتيني، كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، خلال لقاء في العاصمة الكوبية هافانا يوم السبت، أنّه «بوجود ركود اقتصادي، فلن يدفع أحد نصف سنت من الديون. والطريقة الوحيدة للخروج من هذه الحالة، هي في زيادة استثمارات الدولة».
قبل بورتوريكو والأرجنتين، قرّرت اليونان وأوكرانيا وغيرهما من الحكومات، إعادة هيكلة ديونها والتفاوض مع دائنيها. في زمن الأزمات، تسعى الحكومات إلى حلولٍ تنتشلها من «الوحول القذرة». ولكن، لا ينطبق ذلك على لبنان، حيث تستمر السلطة السياسية في إخضاع نفسها لتعهدات سابقة مصمَّمة لما فيه خير القلّة على حساب عامة الشعب. خلال الشهر الحالي، على مصرف لبنان أن يدفع شهادات إيداع تبلغ 560 مليون دولار. وفي 9 آذار المقبل، تستحق سندات دين خارجي بقيمة مليار و200 مليون دولار. الدفع يعني استنزاف مودجوات مصرف لبنان من العملة الأجنبية، وإرضاء الدائنين على حساب تأمين المشتقات النفطية والأدوية والطحين وغيرها من الحاجات الحياتية الأساسية. حتى الساعة لا تزال المفاوضات دائرة بين حكومة حسّان دياب ومصرف لبنان، حول الخيار الذي سيتخذه، بين الاقتراحات التالية: 1) عدم الدفع، 2) دفع المبلغ كاملاً، 3) الدفع لحاملي السندات الخارجية الأجانب فقط، 4) إعادة هيكلة ووضع برنامج مع صندوق النقد الدولي، 5) التفاوض مع حاملي السندات. ومع ازدياد الأصوات الداعية إلى عدم الدفع، بدأ رئيس الحكومة حسّان دياب يبحث في إمكانية الركون إلى هذا الخيار، بعد أن كان مُصراً على تسديد كلّ السندات.