على أبواب شهر رمضان، ثمّة كلمتان تختصران حال الناس في نقاط بيع المواد الغذائية: «الأسعار نار». فمنذ بداية العدوان على غزة وما أنتجته من اضطراب في سلاسل التوريد عبر البحر الأحمر، لم يترك التجار الفرصة تفوتهم لاستغلال الوضع الناشئ وتحقيق مزيد من الأرباح. وها هم اليوم يهدّدون بموجة جديدة من ارتفاع الأسعار بما بين 2% و15% بذريعة شحن البضائع عبر رأس الرجاء الصالح في أفريقيا بدلاً من المرور عبر باب المندب، علماً أن حصّة هذه الكلفة من حجم الشحنات تكاد تكون لا تُذكر، إنما بات واضحاً أنّ رفع الأسعار لغايات الربحية هو نمط متبع لدى التجّار قبل الاضطرابات وبعدها. فخلال 2023 ارتفعت أسعار المواد الغذائية، وفقاً لمؤشرات البنك الدولي، بنسبة 220% وهي ثاني أكبر نسبة تضخّم عالمياً قبل فنزويلا التي سجّلت 173%. وخلال شهر كانون الثاني، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة تراوح بين 7 و13%، بحسب تقرير برنامج الأغذية العالمية.من وجهة نظر المستوردين، فإن الزيادة في السعر مبرّرة؛ إذ إنّ استخدام طرق الشحن الأطول بسبب الاضطرابات في البحر الأحمر المرتبطة بالعدوان الصهيوني على غزة، أدّت إلى ارتفاع أكلاف الشحن والتأمين على المستوعبات. وبحسب رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي، فإن كلفة المستوعب (الكونتينر) زادت من ألفي دولار إلى 5 آلاف دولار، وهو ما سينعكس على السعر النهائي للبضائع المستوردة بين 2% و15%. ويشير بحصلي إلى أنّهم حذّروا من هذه الزيادات قبل شهرين، بمعنى أن جمعية المستوردين «ليست مسؤولة عن أيّ ارتفاع في الأسعار غير مبرّر وخصوصاً السلع التي تأتي عبر طرق بحرية لا اضطرابات فيها مثل البحر المتوسط. بل يقول بحصلي: «نحن لسنا مسؤولين عن الأزمة ولا سلطةَ قرار لدينا، بل تزوّد وزارة الاقتصاد بالمعلومات، والأخيرة هي المسؤولة».
التفاوت في نسب الزيادة على أسعار المواد الغذائية، مرتبط بالأصناف المستوردة وأكلاف الشحن. يقدّم بحصلي مثلاً، عن سعر مستوعب الأرز البالغ 20 ألف دولار «الذي يعدّ من البضائع الرخيصة، إذ يراوح سعر الكيلوغرام بين 70سنتاً إلى دولار ونصف سنت، وبالتالي فإن زيادة بقيمة ألفي دولار على المستوعب، تنعكس زيادة على سعر المستهلك بنسبة 5% على الكيلوغرام. من جهة أخرى، مستوعب التونا أغلى بكثير، وتصل قيمته إلى 100 ألف دولار، والزيادة الثابتة في كلفة الشحن لن تزيد أكثر من 2% على سعر العلبة الواحدة.
مشهد الزيادة على الأسعار واضح لدى وزارة الاقتصاد. فمع بدء الاضطرابات في منطقة البحر الأحمر قامت بجولة على المستوردين، وتبيّن أنّ كلفة الاستيراد من منطقة شرق آسيا أصبحت أعلى بسبب التغيير في مسار السفن وارتفاع سعر التأمين، وفقاً للمدير العام في وزارة الاقتصاد محمد أبو حيدر. إنما يعتقد أبو حيدر أنّ «نسب الارتفاع يجب ألّا تتخطى 8% بحسب فواتير الشحن»، مشيراً إلى أنه من قبل بداية شهر الصوم «تقوم وزارة الاقتصاد بمراقبة أسعار 50 سلعة أساسية، وسلاسل التوريد الداخلية من المستورد إلى السوبر ماركت، وذلك لسحب ذريعة أي رفع عشوائي في الأسعار»، وهذا ما يتيح للوزارة معرفة أن «بعض التجّار يستوردون بضائع تأتي عبر طرق لا تمرّ عبر البحر الأحمر مثل استيراد الزيت من تركيا». لذا، في حال تسجيل ارتفاعات غير مبرّرة «ستقوم الوزارة بتسطير محاضر وإرسالها إلى القضاء». ولا ينفي أبو حيدر «وجود تجار يمنون النفس برفع الأسعار وتحصيل أرباح إضافية في الأيام المقبلة».
اللافت أن بائعي السلع النهائيين، أي السوبرماركت، يقولون كلاماً مغايراً لكلام المستوردين. يؤكد عدد من أصحاب السوبر ماركت الذين التقتهم «الأخبار»، أنّ الغلاء أمر واقع لا مهرب منه حتى لو لم تقع الحرب على غزة، والسبب في رأي أحدهم أن «التاجر لن يتخلى عن ليرة واحدة من أرباحه»، أي إنه سيعكس أيّ كلفة على السعر، وخصوصاً تلك التي ألزمتهم بها إدارة الضمان بالتصريح عن حدّ أدنى لأجور العاملين لا يقل عن 20 مليوناً، مطالبين بأن «تقتصر الزيادة على بدلات النقل فقط، لأن أيّ زيادة على الأجر تساوي تغييراً في تعويضات نهاية الخدمة للعمال، في حين لا تدخل بدلات النقل في صلب الأجر». إزاء هذه الكلفة التي اعتبرها بعض أصحاب السوبرماركت كلفة إضافية يجب تحميلها للمستهلك عبر السعر النهائي للسلعة، يقول أحد أصحاب المحال التجارية الكبيرة (رفض الكشف عن اسمه) إنّ «رفع الحدّ الأدنى للأجور ضروري، ودفع 40 مليوناً شهرياً للأجير لا تأثير له على الأسعار، بل ضروري لتحريك الاستهلاك، وأرباح صاحب العمل لن تتأثر بالزيادة، فهو قادر على تغطيتها من فارق سعر صرف الدولار فقط».
الإضراب يرفع الأسعار أيضاً
هل يعقل تعطّل التخليص في المرفأ والمطار بسبب عدم تواجد الموظفين؟ يسأل نقيب مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي. مشكلةٌ عمرها 3 سنوات وتحوّلت إلى أمر واقع على الشركات المستوردة، الموظفون المسؤولون في وزارتي الاقتصاد والزراعة لا يكشفون على البضاعة ويسمحون بالتالي بدخولها إلى الأسواق، إذ لا يأتون إلى مراكز عملهم سوى ليومين أسبوعياً، و«عند كل مشكلة يتوقف تخليص البضائع، ويتكبّد المستورد تكاليف أرضية تعود إما لإدارة المرفأ أو للشركة المستوردة»، بحسب بحصلي. ويروي، «في حال وصلت الباخرة يوم الخميس، يستلم المستورد إذن تسليم البضائع يوم الجمعة وتطلب البضائع للكشف، وفي حال وضع المستوعب في باحة الكشف يوم السبت ولم يأتِ الموظف ليوم الثلاثاء، يتكبّد التاجر أكلافاً إضافية، وبدوره يضعها على المستهلك». وختم بحصلي بالإشارة إلى «أنّ عودة الموظفين إلى العمل بعد الإضراب ليست تامة، بل جزئية».