أُعلن عن وقف إطلاق النار، وتوالت الاحتفالات بانتهاء الحرب وسارع النازحون للعودة إلى مناطقهم وضيعهم لتفقد منازلهم ومؤسساتهم وممتلكاتهم. وسرعان ما تحوّلت الفرحة إلى كآبة، عندما شاهد أصحاب تلك الممتلكات الدمار وحجم الأضرار التي منيت بها مؤسساتهم، لتبدأ التساؤلات: من سيعوّض علينا خسائرنا؟ من سيعيد بناء مؤسساتنا ومصانعنا ومعاملنا وبيوتنا؟
مع تضرّر حوالى 50% من حجم الاقتصاد نتيجة العدوان الذي استمرّ أكثر من شهرين على مختلف المناطق اللبنانية، لا يمكن توقّع وضع الاقتصاد ما بعد الحرب قبل إجراء مسح حقيقي على أرض الواقع لحجم الأضرار المقدّرة صوريّاً حالياً بين 10 إلى 15 مليار دولار. كما أنه لا يمكن ترجيح مسار الاقتصاد ونموه في مرحلة بعد الحرب قبل انقشاع الرؤية على الصعيد السياسي، أي قبل انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة تتولّى قيادة مرحلة النهوض وتنفذ الاصلاحات التي كانت مطلوبة قبل الحرب والتي استجدّت بعد الحرب.
قبل عودة الثقة باستدامة وقف إطلاق النار وقبل انتخاب رئيس للجمهورية يبعث بالثقة إلى المجتمع الدولي والعربي خصوصاً والمغتربين اللبنانيين، لا يمكن الحديث عن إعادة إعمار أو إمكانية الحصول على تمويل أجنبي أو محليّ.
عندما تتطلّع إلى الحصول على دعم مالي أجنبي، يجب أن يكون هناك دولة على رأسها رئيس وحكومة ومجلس نواب غير فاقد للشرعية. ومن أجل عودة الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد، يجب تأمين استقرار أمني وسياسي واقتصادي وثقة تامة بأن الحكومة تعمل خطة فعلية للنهوض، ملتزمة ضمنها شروطاً أو توصيات المجتمع الدولي. ولضمان حصول تدفقات مالية إلى البلاد، يجب أن تستعاد الثقة بالقطاع المصرفي وبدوره الاساسي الذي هو المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي.
من هنا تبدأ عملية إعادة الإعمار: من انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة والسير بالاصلاحات وبخطة النهوض، ما من شأنه أن يبعث الثقة ويضع الاقتصاد على مسار انتعاش قوي يستعيد ثقة اللبنانيين والمجتمع الدولي، وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي. حيث تشير توقعات معهد التمويل الدولي إلى أن لبنان سيحصل في مثل هذا السيناريو، على ما مجموعه 16 مليار دولار على مدى السنوات الأربع المقبلة: 2 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، 2 مليار دولار من البنك الدولي، 5 مليارات دولار من المجموعة الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، و7 مليارات دولار من دول مجلس التعاون الخليجي لإعادة بناء البلاد.
كما يتوقع أن نجاح هذا السيناريو المتفائل، سيشجع أكثر من نصف اللبنانيين الذين غادروا البلاد خلال السنوات الخمس الماضية على العودة إلى وطنهم والمشاركة في عملية إعادة الإعمار. ليبدأ الاقتصاد في التعافي مع تسارع نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي من -7% في 2024 الى 3.5% في عام 2025 وإلى 6% في عام 2028 مدفوعاً بالاستهلاك الخاص والاستثمار العام والسياحة.
وسيساعد ذلك، في إمكانية ارتفاع سعر الصرف تدريجياً من 89,500 ليرة مقابل الدولار حالياً، إلى حوال 80 ألفاً في 2025 و 65,000 ليرة بحلول عام 2028، مما سيدعم تراجع معدل التضخم من حوالى 39% حالياً إلى 15% في 2025 و3% في 2028.
بالإضافة إلى ذلك، من الممكن أن ترتفع احتياطيات النقد الأجنبي الرسمية تدريجياً، من 10 مليارات دولار حالياً إلى 14 ملياراً في 2025 وإلى 32 مليار دولار في 2028 بسبب التمويل الأجنبي الكبير والتحسّن في الحساب الجاري لميزان المدفوعات. وسيرتفع الناتج المحلي الإجمالي للبنان بالدولار الأميركي من حوالى 24 مليار دولار في عام 2024 إلى 57 مليار دولار بحلول العام 2028 أي أعلى قليلاً من المستوى الذي تمّ تحقيقه في عام 2018، قبل الأزمة الاقتصادية والمالية.
في هذا الاطار، سأل المدير التنفيذي لمؤسسة البحوث والاستشارات الخبير الاقتصادي كمال حمدان: أي تركيبة سياسية ستتولّى عملية إعادة الإعمار والنهوض؟ هل هي التركيبة نفسها التي بقيت خارج إطار المحاسبة والمساءلة بعد انهيار 2019؟ معبّراً لـ “نداء الوطن” عن تشاؤمه من دينامية الطبقة السياسية وجاذبيتها وقدراتها ورغباتها الفعلية بأن تتولى إدارة الشأن العام من جانب آخر. مشيراً إلى أن “هذا التشاؤم لا يمنع القطاع الخاص رغم كلّ عثراته ومشاكله وتأثره بالفساد العام السائد في البلاد، من أن يعطي مؤشرات على تحسّن الأمور على صعيد السياحة، أو الاستثمار الصناعي وغيره. إلا أن القطاع الخاص وحده لا يكفي طبعاً، خصوصاً أنه مقيّد بالبيروقراطية السياسية المتوارثة”.
واعتبر حمدان أن الوضع المستجدّ حالياً يوحي بأن لبنان، بشكل من الأشكال، أصبح تحت وصاية أطراف دولية، وبالتالي فإن وضع الاقتصاد ما بعد الحرب ووضع التدفقات المالية مرهون بالدول المانحة والمؤسسات الدولية التي غالباً ما يأتي دعمها عبر الدول المانحة، أي تنفيذاً لقرارها السياسي.
وأوضح أنه بالمقدار الذي يتقدّم فيه الملف السياسي وفقاً لما تعتبره الدول المانحة والمؤسسات الدولية منسجماً مع سياساتها العامة في المنطقة، يتمّ بالمقدار نفسه تحرير دعم أكبر وأكبر للبنان.
أضاف: لكن هذا الأمر ليس واضحاً بعد، بانتظار بلورة الصيغة السياسية في المنطقة وفي لبنان. عندما تتّضح معالم هذه الأجندة، ستعطي فكرة عن حجم ونوع التدفقات والمساعدات التي سترد الى لبنان.
وختم حمدان مشدداً على ضرورة وأهمية تأمين الحماية الاجتماعية لشريحة واسعة من اللبنانيين فقدت باللحظة ذاتها، مدّخراتها (ودائعها)، وجزءاً كبيراً من قدرتها الشرائية بسبب التضخم، بالإضافة إلى ممتلكاتها ومؤسساتها، لتفادي حصول أزمة أمنية واجتماعية .
من جهته، رأى عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا بيار الخوري، أن المرحلة المقبلة هي مزيج من التحدّيات والفرص ومزيج من مصادر داخلية ومصادر خارجية. لافتاً لـ “نداء الوطن” إلى أن عملية إعادة الإعمار ستكون المحرّك الأساسي للنمو الاقتصادي، “علماً أن التحدّيات تتمثل بإمكانية الانتقال إلى إدارة حديثة وشفافة وخالية من الفساد”.
وأوضح أن مصدر التدفقات المالية سيكون المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، مؤسسات التنمية الدولية التي تقدم مشورة لإعادة الإعمار، بالإضافة إلى الدعم المالي المشروط بالإصلاحات الاقتصادية. كذلك الأمر بالنسبة للدول المانحة التي ستتألف بشكل أساسي من الدول العربية المتموّلة، والتي ستشكّل مصدر الدعم الأساسي والأكبر، تليها الدول الأوروبية، فالولايات المتحدة. مشدداً على أن شروط الدول المانحة سياسية بالدرجة الاولى واقتصادية أساسية مماثلة لشروط المؤسسات الدولية.
كما أشار الخوري إلى أن الجزء الآخر من التدفقات المالية سيأتي من خلال عطاءات الدولة أي العقود الاستثمارية طويلة الاجل مثل الـ BOT وغيرها. وأخيراً، فإن الجزء الأخير من التدفقات سيكون من القطاع الخاص اللبناني المغترب والمقيم، الذين أثبتوا عبر التجارب التاريخية أنهم جزء فعّال من أي عملية إعادة إعمار حصلت في الماضي بعد الحروب.
تابع: تضاف إلى ذلك إمكانية حصول المواطنين أو المؤسسات على تعويضات الحرب من خلال صناديق متخصّصة أو الهيئة العليا للإغاثة أو التعويضات الحزبية. وفي حال حصوله، سيكون جزءاً من عملية تدفق الأموال إلى الاقتصاد.
في المقابل، نبّه الخوري من الرقابة المتشددة على مصادر الأموال في ظلّ إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمنظمة العمل المالي، وفي ظلّ اتّهام لبنان بأنه ساحة لتبييض الأموال وأموال الجريمة المنظمة، مما يشكل عبئاً كبيراً على مصادر التمويل غير الموثوقة وغير الرسمية لإعادة الإعمار، خصوصاً التمويل الحزبي بأي شكل من الأشكال.
أما بالنسبة لدور الدولة في عملية إعادة الإعمار، فاعتبر الخوري أن هذا الأمر مرتبط أوّلاً بإصلاح الموازنة، وتعديل النظام الضريبي والنظام المالي ونظام الحوكمة لتأمين إيرادات أكبر يمكن أن تسدّ حاجة التمويل التي تتجاوز ما تهدّم نتيجة الحرب بل تعود إلى العام 2019.
ختم الخوري: أمام لبنان 3 تحدّيات تحت عنوان ورشة إصلاح القطاع العام: الحوكمة، الكفاءة واستئصال الفساد. التحدّي الثاني هو إعادة جدولة الدين العام الأجنبي وإصلاح القطاع المصرفي. والتحدّي الثالث يرتبط بالتوترات الاجتماعية التي يمكن أن تسوق البلاد نحو الفوضى في حال لم يفلح العقل السياسي في إنجاز اصلاحات تسمح بالنمو. إن لم ننجح في هذه التحدّيات لن نحصل على قرش واحد!