2022 عام اضمحلال الليرة مقابل الدولار

في الوقت الذي يتعاظم فيه الحديث عن زيادة تتراوح بين 15 و25 في المئة على الأسعار نتيجة لرفع الدولار الجمركي، خسرت الليرة اللبنانية خلال العام الحالي 54 في المئة من قيمتها. فبعد أن كان سعر صرف الدولار مقابل الليرة يوازي 20 ألفاً في كانون الثاني 2022، ارتفع ليصل مع نهاية العام إلى 45 ألف ليرة. ما يعني أن الأسعار المقيّمة بالدولار ارتفعت تلقائياً بنسبة موازية مبدئياً. محاولات السيطرة الثلاث على سعر الصرف التي قادها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة خلال العام 2022 باءت بالفشل. وباستثناء التعميم 161 الذي يسمح بتحويل الليرات إلى دولارات على سعر صيرفة، فان القرارات اللاحقة أتت مكررة ووهمية، ولم تحدث الصدمة الإيجابية لأكثر من أيام معدودة. هذا عدا عن أن الحاكم لعب طوال العام الحالي لعبة القاضي والجلاد. إذ عمد مقابل إجراءات تخفيض سعر الصرف، إلى المضاربة على الليرة من خلال شراء الدولار من السوق الموازية لتأمين احتياجات صيرفة ونفقات الدولة.

التدخل الأول مطلع 2022: فتح سقف السحوبات

افتتح العام 2022 على هندسة مالية غريبة عجيبة. فعلى أثر تحليق سعر صرف الدولار في نهاية كانون الأول من العام 2021، أعلن حاكم مصرف لبنان من السراي الحكومي عن تزويده المصارف بحصتها النقدية لما تبقى من كانون الاول بالدولار، على أن تبيعها للمودعين وأصحاب الرواتب الموطنة على سعر صيرفة عوضاً عن الليرات. الخطوة التي حُددت مراسيمها التطبيقية بالتعميم الشهير 161، ولمدة موقتة تنتهي مع انتهاء العام 2021 لم تؤتِ ثمارها. إذ أن سعر صرف الدولار استمر بالتحليق عالياً في النصف الاول من كانون الثاني 2022، متجاوزاً 33 ألف ليرة. فما كان من حاكم المركزي قبيل منتصف كانون الثاني 2022 إلا أن فتح سقف السحوبات النقدية للمصارف بالدولار مقابل الليرات اللبنانية التي بحوزتها او لدى عملائها، وبتمديد العمل بالتعميم 161 إلى أجل غير مسمى. قرار أتاح لحملة الليرات الناتجة بمعظمها من بيع ما بحوزتهم من دولار إلى حملها رزماً، بالاكياس والشنط إلى المصارف وتبديلها بالدولارات النقدية على أساس سعر صيرفة، الذي كان قد حدده المركزي بـ 24700 ليرة. وقد أتاح هذا القرار ببساطة تحقيق أرباح خيالية نتيجة الفرق البالغ نحو 10 آلاف ليرة بين سعر السوق الموازية وسعر منصة صيرفة. فمن كان يحمل مثلا 25 مليون ليرة يحصل من المصرف على 1000 دولار، يبيعها بالسوق بـ 33 مليون ليرة فيحقق ربحاً فورياً بقيمة تصل إلى 10 ملايين ليرة.

سعر السوق يتدنّى عن صيرفة

هذا الدفع القوي الذي أعطاه مصرف لبنان لسعر الصرف في النصف الثاني من كانون الثاني 2022 خفض سعر صرف الليرة إلى ما دون سقف صيرفة. إذ في الوقت الذي كان يتراوح فيه سعر صرف الدولار في السوق الموازية بين 20 و21 ألف ليرة، كان سعر الدولار على منصة صيرفة يبلغ 21100 ليرة. الأمر الذي أدى إلى وقف تحويل الليرات إلى دولارات بالنسبة للعملاء العاديين، وإثارة غيظ الموظفين الذي أصبحوا يخسرون في عملية التحويل هذه. كما تراجع ضخ الاموال على منصة صيرفة إلى حدود 15 مليون دولار يومياً.

التدخّل الثاني: تكرار المكرّر يعطي نتائج مرحلية

لم تطل المدة إلى أن بدأت المصارف تستنسب في عملية بيع الدولارات على منصة صيرفة. فحيناً المنصة مقفلة أمام العملاء العاديين، وأحياناً تتحجج المصارف بنفاد حصتها من الدولارات. وقد عمد معظمها إلى تخفيض سقوف تحويل الليرات إلى دولارات بحيث لا تتيح للعميل الفرد تحويل أكثر من 500 دولار. هذه العوامل التي ترافقت مع انعدام الثقة والعجز عن تنفيذ الاصلاحات وانهماك البلد في ورشة الانتخابات النياية المقررة في أيار، أثّرت سلباً على سعر الصرف. فمنذ نهاية شباط عاد سعر صرف الدولار ليرتفع أمام الليرة ولو بمعدلات مقبولة تراوحت بين 23 ألف ليرة و26 ألفاً مع مطلع شهر أيار. فيما تراوح سعر الدولار على منصة صيرفة بين 20800 ليرة و22500 ليرة للدولار الواحد. وما إن انتهت الانتخابات النيابية التي جرت في 15 أيار الفائت، حتى تجاوز سعر صرف الدولار عتبة 30 ألف ليرة. واستمر الدولار بالارتفاع ليصل في الفترة الفاصلة بين الانتخابات وانتخاب رئيس لمجلس النواب إلى 38 ألف ليرة. وكما العادة تدخل حاكم مصرف لبنان يوم الجمعة في 27 أيار أي قبل 4 ايام على التجديد للرئيس نبيه بري على رأس البرلمان، متخذاً قرارين “يكرران المكرر” للتأثير على سعر الصرف.

– الاول، مخصص لحاملي الليرة اللبنانية من المواطنين والمؤسسات الذين يريدون تحويلها إلى الدولار.

– الثاني للمصارف التجارية. حيث طلب منها “ابتداءً من يوم معين ولمدة ثلاثة أيام متتالية، إبقاء فروعها وصناديقها مفتوحة يومياً حتى الساعة السادسة مساءً لتلبية طلبات المواطنين الخاصة بشراء الدولار على سعر صيرفة لمن سلم الليرات اللبنانية، كما يتم دفع معاشات الموظفين في القطاع العام بالدولار أيضاً على سعر صيرفة”.

وبالفعل نجحت حيلة المركزي الوهمية، وحصلت موجة بيع غير مسبوقة للدولار بعد ظهر يوم الجمعة الواقع فيه 27 أيار 2022. تراجع على أثرها سعر صرف الدولار من حدود 38 ألف ليرة إلى 29 ألف ليرة في ظرف ساعات معدودة. وعلى الرغم من أن القرارين لم يضيفا شيئاً جديداً، إلا أنهما أوحيا بأن سعر صرف الدولار سينخفض. فعمد بعض حامليه إلى التخلص منه، وأدت عملية البيع الكبيرة إلى زيادة عرضه بالسوق، وبالتالي تراجع سعره بعد أيام قليلة إلى حدود 27 ألف ليرة.

التدخّل الثالث: الدولار يتجاوز عتبة 40 ألف ليرة

استمرت الصدمة الإيجابية التي احدثها قرار المركزي طيلة شهري حزيران وتموز. حيث تراوح سعر الصرف في السوق الموازية بين 27500 ليرة و30 ألف ليرة. ولم يعاود ارتفاعاته الكبيرة إلا بعد منتصف شهر آب، إذ تجاوز عتبة 33 ألف ليرة، محلقاً عالياً قرب مستويات 38 ألف ليرة في مطلع أيلول الفائت. فالطلب الكبير على الدولار لتأمين احتياجات المدارس وفصل الشتاء، وانعدام الثقة بالوضع السياسي مع الفشل في تشكيل حكومة فعلية بعد الانتخابات النيابية تستلم زمام الاصلاحات الضرورية، وقرب إقرار موازنة 2022 التي تتضمن زيادة في الضرائب، ولا سيما منها لجهة احتساب الدولار الجمركي على أساس 15 ألف ليرة، وزيادة الضرائب على مداخيل الدولار… كلها عوامل أدت إلى زيادة الطلب على الدولار بشكل كبير. ولا سيما من التجار الذين عمدوا إلى أوسع عملية استيراد تحسباً لارتفاع الاسعار مع بدء تطبيق الموازنة.

الارتفاعات الكبيرة في سعر صرف الدولار مقابل الليرة لم تلبث أن تجاوزت عتبة 40 ألف ليرة للمرة الاولى في منتصف تشرين الاول، واستمرت بالصعود حتى وصلت في 22 تشرين الاول إلى حدود 41 ألف ليرة. وكما كل مرة تدخل حاكم مصرف لبنان من خارج دوام العمل الرسمي في 23 تشرين الاول 2022، الذي صادف أنه يوم أحد، بقرار جديد قديم. حيث أعلن أنه “بناءً على المادتين 75 و83 من قانون النقد والتسليف سيقوم مصرف لبنان ومن خلال منصة SAYRAFA ببيع الدولار الأميركي حصراً ابتداءً من يوم الثلثاء القادم علماً انه لن يكون شارياً للدولار عبر منصة صيرفة من حينه وإلى إشعار آخر”. وجدد من خلال القرار العمل بالتعميم 161 الذي يقضي بدفع معاشات القطاع العام بالدولار الأميركي. واستمرار تحويل الليرات إلى دولارات حتى سقف 400 دولار على أساس سعر منصة صيرفة لأصحاب الحسابات المصرفية. كما أعلن استمراره في العمل بالتعميمين 151 و157. وقد هدف المركزي من هذه الخطوة إلى ضخ المزيد من الدولارات عبر منصة صيرفة، مع التأكيد أن هذه الأموال لن تأتي من الاحتياطي.

وبالفعل تراجع سعر صرف الدولار مقابل الليرة لساعات قليلة بمقدار 5000 ليرة إلى حدود 35 ألف ليرة ، قبل أن يعود ليفتتح التداول يوم الاثنين الواقع فيه 24 تشرين الاول على سعر 37200 ليرة. بمعنى أن هذه الخدعة لم تخفّض الدولار إلا 3000 ليرة. مسببات فشل آخر الإجراءات التي اتخذها المركزي للتأثير على سعر الصرف كانت منها وفيها. فلطالما كان تدخله في السوق شارياً للدولار من خلال طباعة الاموال لتأمينه على منصة صيرفة، هو السبب الأول لتدهور سعر الصرف في السوق الموازية. وقد تخطت الكتلة النقدية الموضوعة بالتداول M1 في العام الحالي 74 ألف مليار ليرة. فيما تراجع احتياطي المركزي من العملة الصعبة في الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي بأكثر من 2.4 مليار دولار. أما التراكم الذي حققه في احتياطي النقد الصعب في الشهرين الماضيين والمقدر بحدود 600 مليون دولار، فقد نجم بشكل أساس عن شرائه الدولار من السوق السوداء، وهو السبب نفسه الذي أدى إلى ارتفاع سعر الصرف وامتصاص كل الزيادات التي أعطيت على الرواتب والأجور بالليرة اللبنانية.

الدولار يتجاوز ٤٥ ألف ليرة قبل نهاية العام

بعد أسبوع على آخر تخفيض وهمي مصطنع لسعر الصرف اواخر تشرين الاول الماضي عاد الدولار ليحوم قرب مستويات 40 ألف ليرة مرة جديدة. واستمر السعر بالارتفاع حتى تجاوز 45 ألف ليرة قبل أيام من إقفال العام الحالي. ففي منتصف هذا الشهر دخلت زيادة الرواتب التي اقرتها الموازنة حيّز التنفيذ بمفعول رجعي. وقد استفاد موظفو القطاع العام منتصف هذا الشهر من راتبين، وسيدفع لهم راتبان إضافيان قبل عيد الميلاد. وعليه يقدر أن تتجاوز كتلة الرواتب والأجور هذا الشهر 4 تريليون ليرة. وهذه الكميات الهائلة من الليرات سيتحول بعضها طلباً مباشراً وغير مباشر على الدولار. الأمر الذي سيزيد سعره مقابل الليرة. وفي المقابل لم تبدأ المالية بعد استيفاء عائدات رفع الرسوم الجمركية كما يجب باحتساب دولار جمارك الاستيراد على أساس 15 ألف ليرة. وفي جميع الحالات، فان هذه الخطوة لن تؤمن من الناحية النظرية أكثر من 1.2 تريليون ليرة شهرياً، فيما تبلغ كتلة الرواتب والأجور بالليرة حوالى 3.3 تريليون ليرة، أو ما يقارب 40 ألف مليار ليرة سنوياً، توازي مجمل نفقات موازنة 2022.

 

مصدرنداء الوطن - خالد أبو شقرا
المادة السابقةهجمة مصرفية مرتدّة: ميزانية سخيّة لترويج تحميل الدولة خسائر الودائع
المقالة القادمةالقطاع الصحي البريطاني يدخل غرفة الإنعاش