غالباً ما يتبارى نواب أمام الاعلام في التعبير عن سخطهم من عدم صدور مراسيم تطبيقية لقوانين تنظم العديد من القطاعات المهمة في البلد، وكان استغرق اقرارها سنوات في المجلس النيابي، ويرمون الكرة في ملعب الحكومات المتعاقبة التي تتلكأ عن القيام بواجبها في هذا الاطار. وفي ما خص القوانين التي صدرت عن مجلس النواب وتتعلق بالقطاعات الاقتصادية، أي الصناعة والتجارة والزراعة والمال… تبين (بحسب الموقع الرسمي لمجلس النواب)، أن هناك 21 قانوناً صادراً لاعادة تنظيم هذه القطاعات وتصويب العمل فيها، من أصل 73 قانوناً لم تصدر مراسيمها التطبيقية منذ العام 2000، ما حرم الخزينة اللبنانية من مئات ملايين الدولارات (كما يجزم مختصون). أما السبب الحقيقي لهذا «الكسل الاداري» بحسب مصدر نيابي مختص، فهو «إما عدم الاتفاق بين القوى السياسية على الحصص لتشكيل هيئات ناظمة لقوانين صدرت، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الكهرباء والطيران والمنافسة، وإما لأن تطبيق هذه القوانين يضر بمصلحة المنظومة السياسية التي تمتد استثماراتها بالشراكة مع أزلامها لمختلف القطاعات الاقتصادية في لبنان».
أمثلة
المحصلة هي التالية: هناك قوانين لا تزال من دون مراسيم تطبيقية منذ عقدين على الاقل، وهي قوانين متعلقة بوزارة الاشغال العامة والنقل (4 قوانين)، أكثرها الحاحاً قانون إدارة قطاع الطيران المدني الصادر في 12/12/ 2002 وقانون سلامة الطيران المدني الصادر في 4/ 2/ 2005، وقوانين متعلقة بوزارة الطاقة والمياه (8 قوانين) أبرزها قانون رقم 462 تاريخ 2002/9/2 لتنظيم قطاع الكهرباء، وقانون رقم 132 تاريخ 2010/8/24 يتعلق بالموارد البترولية في المياه البحرية، وقوانين متعلقة بوزارة الاقتصاد والتجارة (4 قوانين) قانون رقم 659 تاريخ 2005/2/4 (حماية المستهلك) مراسيمه منجزة في الوزارة ولم تصدر بعد، وقانون رقم 18 تاريخ 2008/9/5 لإنشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس.
هناك قانون واحد متعلق بوزراة الصناعة (بحسب موقع مجلس النواب أيضاً) وهو قانون رقم 224 تاريخ 2012/10/22 وينظم القواعد الفنية وإجراءات تقييم المطابقة الخاصة بها، وقانون واحد يخص وزارة الاتصالات رقم 431 تاريخ 2002/7/22. أما القوانين المتعلقة بوزارة المالية (4 قوانين) أبرزها قانون رقم 44 تاريخ 2008/11/11 الاجراءات الضريبية وقانون رقم 161 تاريخ 2011/8/17 المتعلق بالاسواق المالية.
في آذار العام 2022 صدر أيضاً قانون المنافسة وبقي أيضاً من دون المراسيم التطبيقية له حتى يومنا الحاضر. ولعلّ الاضاءة على ما يتطلبه تنفيذ هذا القانون لجهة انشاء مجلس المنافسة، وتعيين 7 أعضاء (قاضيان من قضاة محاكم التجارة والإفلاس، وعضوان من ذوي الخبرة ترشحهما غرف التجارة والصناعة والزراعة، وعضوان من المحامين من ذوي الخبرة في القانون التجاري وحقوق المستهلك، ترشحهما نقابتا المحامين في بيروت وطرابلس، عضو واحد يرشحه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي من غير أرباب العمل)، يعطي مثلاً على صراع المحاصصة بين القوى السياسية الذي يتسبب بعدم تحويل هذه القوانين الى واقع.
البلد هيك!
على ضفة النواب، يؤكد عضو لجنة الاقتصاد النيابية النائب رازي الحاج لـ»نداء الوطن» أن آخر تعداد للقوانين الصادرة من المجلس النيابي وتحتاج الى مراسيم تطبيقية من قبل مجلس الوزراء، يفوق عددها الـ70 قانوناً وهذه القوانين منها ما يعتبر حيوياً جداً مثل قانون المنافسة»، معبراً عن اعتقاده أن «الازمة اليوم ليست أزمة تشريع بقدر ما هي تنفيذ للقوانين الصادرة، وهذا يعود الى المنطق السائد منذ مدة بأن «البلد هيك»، وليس هناك نية جدية لتطبيق الاصلاحات خاصة من قبل السلطة التنفيذية».
يضيف: «هذا ما استوجب العديد من الاسئلة التي وجهتها الى الحكومة، والردود كانت بالعموميات. واعتقد أنه يجب ان يكون هناك ورشة تشريعية – تنفيذية لاعادة جمع كل ما يلزم من جهد من أجل اصدار هذه المراسيم التطبيقية، وكنا نتابع قانون المعاملات الالكترونية والتوقيع الالكتروني وقانون الاسناد الالكتروني، وصدر مرسوم من مجلس الوزراء ثم تبين ان هذا المرسوم يحتاج الى مرسوم آخر تطبيقي. وهذا أمر مضحك – مبكٍ».
يرى الحاج أن «تأخر السلطة التنفيذية في اصدار المراسيم سببه أنها لا تريد اصدار قانون لقطاع معين، ولكنها تقره تحت الضغط النيابي او ضغط الرأي العام، ولكنها في الوقت نفسه تعطّله من خلال عدم اصدار مراسيم تطبيقية له وهذا غالباً ما يكون السبب»، من «الامثلة على ذلك تشكيل الهيئات الناظمة في الكهرباء والاتصالات (القانون 461 و 462). حتى الساعة لم تشكل هذه الهيئات، وهناك قانون صدر عن حق القطاع الخاص في انتاج الطاقة من الموارد المتجددة وبيعها للقطاع الخاص، وحتى الساعة لم تصدر مراسيم تطبيقية وتشكل هيئة ناظمة، وهذا يدفعنا الى اليقين ان كل هذا التباطؤ لا يحدث بسبب الاهمال فقط ولكن ايضاً لان هناك نية لتعطيل القوانين المقرة في المجلس».
ويختم: «هذا ما يعانيه لبنان منذ سبعينيات القرن الماضي، يعني ان هناك 50 عاماً من الكلفة الباهظة التي يدفعها الاقتصاد والمجتمع سنوياً، ولولا ان الشعب اللبناني جبار لما استطاع الاستمرار حتى اليوم. كلفة غياب هذه المراسيم كبيرة على الصحة والبنى التحتية والبيئة والواقع الاجتماعي».
مصالح الناس ليست أولوية
من جهته يشير عضو لجنة المال النيابية النائب ابراهيم منيمنة لـ»نداء الوطن» أن «عدم صدور المراسيم التطبيقية لا تتعلق فقط بالشق المالي، بل واضح انه حين لا تعتبر المنظومة السياسية مصالح الناس أولوية، تصبح كل عملية التشريع ثانوية بدءاً من مجلس النواب وصولاً الى الحكومة»، مشدداً على أن «القوانين المالية والمختصة بادارة السير والبيئة وغيرها تحتاج الى مراسيم تطبيقية لتنفيذها، لكن الحكومة لا تعمد الى اصدارها لأنه ليس هناك من يحاسبها، وما يحصل اليوم هو تقليص دور القوانين كمرجعية للمواطن، وفي الوقت نفسه هناك تراخٍ في تسهيل امور الناس وتنظيم المجتمع. القطاعات الاقتصادية وهي جزء لا يتجزأ من طريقة عمل المنظومة السياسية، التي تعتمد على التسويف والمماطلة والاهمال لدورها الاساسي في تنظيم حياة الناس وتفعيل المؤسسات».
ويختم: «هناك مسؤولية على اللجان النيابية لمساءلة ومحاسبة الحكومة عن تنفيذ القوانين ووضع المراسيم التطبيقية لها، ويجب محاسبتها في تقصيرها في هذا الموضوع، لأنه من دون مراسيم كأننا نقر القوانين من دون فائدة».
خسائر
بلغة الارقام هناك خسائر، بسبب عدم صدور مراسيم تطبيقية لهذه القوانين «وهي بمئات ملايين الدولارات»، على حد تعبير الخبير الاقتصادي الدكتور باسم البواب لـ»نداء الوطن»، شارحاً أن «المراسيم التطبيقية ضرورية جداً خصوصاً في قانون مثل قانون المنافسة الذي صدر منذ اكثر من عام ونصف. حين وضع هذا القانون نصَّ على أن كل تاجر يريد الاستيراد من ماركة معينة، عليه ان يستوفي الشروط التي كان يملكها الوكيل، مثلاً اذا اراد استيراد سيارة من ماركة معينة يجب ان يكون لديه مراكز صيانة واختصاصيين وقطع غيار لاتمام عمليات الصيانة، وهذه الشروط كلها لا تطبّق بسبب غياب المراسيم التطبيقية، مما يشكل خطراً على السلامة العامة، وهذا المثال ينطبق على العديد من البضائع الاخرى».
يجزم البواب أن «كل هذه التفاصيل خارجة عن السيطرة والرقابة. الخسائر الناجمة عنها لا تطال فقط خزينة الدولة بمئات ملايين الدولارات سنوياً، بل ايضاً تكلف القطاع الخاص مليارات الدولارات، وتساهم في تكبير الاقتصاد غير الشرعي بدلاً من تعزيز الاقتصاد الشرعي، وايضاً تضعف سوق الاعلانات لأن وكلاء الماركات توقفوا عن الترويج لبضائعهم اعلانياً وعبر وسائل الاعلام، وهذا ما اضعف سوق الاعلانات وأدى الى تراجعه».
ويشدد عى أن «كل القوانين الاخرى على المثال نفسه، قانون القنب الهندي مثلٌ آخر على ان عدم صدور المراسيم التطبيقية ليقع في صالح تجارة المخدرات والكبتاغون ويخسّر الخزينة اللبنانية مئات الملايين، بينما يمكن الاستفادة منه بطريقة طبية وشرعية»، مؤكداً أنه «ليس من المبالغة القول ان البلد كله مشلول سياسياً وادارياً ونخسر سنوياً مليارات الدولارات منذ 2019 وحتى اليوم، من دون أن يعبأ المسؤولون السياسيون بمعالجة هذا الامر، والثمن يدفعه المواطن الللبناني والتاجر الشرعي». ويختم: «لا يمكن وضع رقم معين للخسائر، لأننا نستورد بنحو 20 ملياراً سنوياً ولكن الخسائر بالتأكيد هي بمئات ملايين الدولارات».