على مدى أكثر من قرن، شهد لبنان موجات من الهجرة الوافدة والخارجة. والأزمات الجارفة، مثل الحرب في سوريا، والانهيار المالي في لبنان، عزّزت الهجرات المزدوجة؛ اللبنانيون إلى الخارج، والسوريون إلى الداخل. وبنتيجة هذا التغير الديموغرافي الشديد، أصبح عدد المقيمين السوريين في لبنان، من هم دون سن الـ15، أكثر من المقيمين اللبنانيين الذين ينتمون إلى هذه الفئة العمرية. أما كلفة الهجرة من لبنان، فقد تراكمت على مدى ثلاثين سنة لتبلغ 240 مليار دولار، وفقاً لتقديرات دراسة أعدها الأمين العام لحركة «مواطنون ومواطنات» شربل نحاس، بعنوان: «لبنان: الهجرات والأزمات؛ المجال، السكان، الدولة؟».
خلصت الدراسة إلى مجموعة من النتائج عن التغيّرات الأساسية في هرم الأعمار وبنية السكان بالاستناد إلى قراءة التطوّرات بين 1970 و2018. فاللبنانيون الذين تقلّ أعمارهم عن 20 عاماً كانوا يمثّلون 55% من السكان في 1970، وانخفضت نسبتهم إلى 40% في 1997، ثم إلى 30% في 2018. كما ارتفعت نسبة اللبنانيين الذين تراوح أعمارهم بين 40 و60 عاماً، من 15% في 1970، إلى 18% في 1997، وصولاً إلى 26% في 2018. عملياً، فقد لبنان نحو 25 ألف مهاجر سنوياً، أي ما يمثّل 0.7% من عدد سكانه، وتتركّز هذه الهجرة بين الفئات العمرية الصغيرة، ونسبتها أعلى عند الشباب من الشابات. لكن الأمر لا يقف عند هذه «الخسارة»، بل إن انخفاض عدد الولادات السنوية إلى نحو 50.000، مقابل وفيات بنحو 27.000، يعني أنّ تأثير الهجرة يلغي النموّ السكاني الطبيعي بشكل شبه كامل.
وفي قياس الأثر التراكمي لهذه الهجرة على المجموعات المختلفة، تشير الدراسة إلى أن نحو 45% من الذكور يهاجرون قبل سن الـ55 عاماً، بينما تصل هذه النسبة إلى 35% لدى الإناث، بمعدل عام يبلغ 40%. ومعظم المهاجرين هم مهنيّون وخرّيجون قادرون بشكل عام على إيجاد فرص أفضل في بلدان الهجرة.
هكذا، بين عامي 2004 و2023، انخفضت نسبة اللبنانيين من المقيمين بمعدل يراوح بين 20% و25%، واللافت أن الفئة العمرية التي دون الـ15 سنة تشكّل في 2023 نحو 52% من المجموع، ما ينذر بأنهم على وشك أن يصبحوا أقلية. بناء على هذه التطورات، يقول نحاس إنّه في السيناريو القائم ينخفض عدد المقيمين اللبنانيين إلى 2.49 مليون في عام 2038، وسيكون عدد المقيمين السوريين نحو مليونين.
وتشير الدراسة إلى أن الكلفة المقدّرة التي تراكمت على مدى ثلاثين عاماً من هجرة الشباب اللبناني، تبلغ 240 مليار دولار. فما أصاب لبنان هو «المرض الهولندي الذي دفع نحو نموّ القطاعات المنتجة للسلع غير القابلة للتداول، وقلّص الشركات المصدّرة بشكل كبير جداً» وفقاً لما ورد في الدراسة. لذا، إذا كانت عودة المواطنين السوريين إلى سوريا شبه مستحيلة، وفي ظل المساعدات المالية من الخارج، التي هي قليلة نسبياً بحسب نحاس، فإن هذا الأمر سيكون سبباً إضافياً لتفاقم التوترات بين اللبنانيين والسوريين الفقراء. وقد يكون الحل الكارثي هو تقديم المساعدات إلى اللبنانيين عبر برنامج البنك الدولي، لأنها بالحدّ الأدنى تعيد تنشيط الشبكة الزبائنية.
أيضاً من السيناريوهات المتوقعة، أن يدخل جزء من السوريين المجتمع اللبناني بشكل نظامي. وهنا يقول نحاس إن هذه النتيجة تصبح مرجّحة أكثر مع مرور الوقت، وقد مضى سنوات على الهجرة الكبيرة في عام 2012، وأصبح المهاجرون (النازحون السوريون) جزءاً من يوميات لبنان وانخرطوا فيه. أما نتيجة رحيل الشباب اللبناني، ولا سيما أصحاب الدخل المتوسط، فستكون سلبية على الاقتصاد، «المغادرة الجماعية ستهدم المجتمع عبر إفراغه من قواه الحيوية وتدمير الروابط الأسرية والاجتماعية؛ وسيتعين علينا أن ننتظر وقتاً طويلاً، عقوداً بلا شك، لأولئك الذين سيبقون، أي أولئك الذين لن يجدوا طريقة للرحيل لإعادة بناء مجتمع متماسك، وفقاً لنحاس.
تناقض الأرقام الرسمية
أثناء إعداد الدراسة تبيّن أن هناك صعوبات في فهم حقيقة الأرقام الواردة من المصادر الرسمية. مقارنة أرقام الأمن العام مع أرقام الإحصاء المركزي، تبيّن أنّ صافي الهجرة لدى اللبنانيين منذ بداية التسعينيات حتى 2020 هو سلبي، مع أن مجموعها التراكمي يشير إلى أن أكثر من 75% من المقيمين في لبنان هاجروا. أما صافي الهجرة لدى السوريين، فيظهر إيجابياً، مع أن مجموعها التراكمي يشير إلى أن نحو 40% من السكان في سوريا هاجروا إلى لبنان. أما أرقام مطار بيروت، فتظهر أن نسبة المهاجرين قليلة جداً مقارنة مع أرقام الأمن العام. تشير أرقام المطار إلى أنه بين 1992 و2005 بلغ صافي هجرة اللبنانيين إلى الخارج 128 ألف فرد، بينما تشير أرقام الأمن العام عن المدة ذاتها أن الصافي يبلغ مليونَي مهاجر.