يمكن القول إنه في السنتين الأخيرتين، تعافت الإيرادات الجمركية في لبنان لتلامس مستويات ما قبل 2019، وهو مسار منطقي ربطاً بعودة حجم الاستيراد إلى مستويات تلك الفترة. إلا أن هذا التعافي لم تتوازَ معه عودة مماثلة لباقي إيرادات الموازنة، ما جعل للإيرادات الجمركية وزناً أكبر في المالية العامة مقارنة بما كانت عليه.
عملياً، أصبحت الموازنة العامّة تعتمد بدرجة متزايدة على الاستهلاك المستورد، في مؤشر على ضعف تحصيل الضرائب الداخلية وانكماش الاقتصاد الحقيقي، وهذا يعني أن النموذج الاقتصادي القائم، أصبح أكثر تطرفاً وتشوّهاً عما كان عليه قبل الانهيار.
وهذا الواقع يحمل تناقضاً واضحاً بين مصلحة المالية العامّة التي تستفيد من ارتفاع الجمارك، ومصلحة الاقتصاد الذي يتأثر سلباً من زيادة الاعتماد على الاستيراد. فارتفاع الاستهلاك المستورد يعني مزيداً من تسرّب العملات الأجنبية إلى الخارج، وازدياد الضغط على سعر الصرف، وارتفاع الأسعار الداخلية، ما يضعف القدرة الشرائية للأسر اللبنانية ويزيد الأعباء على المؤسّسات المنتجة، الزراعية منها والصناعية، نتيجة ارتفاع الأكلاف وانحدار القدرة التنافسية للمنتج المحلي.
تعافٍ قوي
شهدت الأشهر الثمانية الأولى من عام 2025 عودة قوية في الإيرادات الجمركية مقارنة بالسنوات التي تلت الأزمة مباشرة. فقد بلغت الإيرادات الجمركية حتى نهاية آب نحو 787 مليون دولار، بارتفاع نسبته 215% و105% مقارنة مع المدة نفسها من عامَي 2023 و2024.
ويتضح معنى هذه النسبة عند وضعها في سياقها الزمني؛ فقبل 2023 كانت الإيرادات الجمركية في مسار انحداري، إذ بلغت في 2022 نحو 40 مليون دولار نتيجة التدهور الحاد الذي خفّض الإيرادات بنسبة 96% بين 2019 و2022. وكان انهيار العملة العامل الأساسي في انهيار الجباية الجمركية.
فبينما تدهور سعر الصرف فعلياً إلى عشرات آلاف الليرات، بقي الدولار الجمركي عند 1500 ليرة، ما فوّت على الدولة مئات ملايين الدولارات. ثم بدأت معالجة هذا الخلل في 2023 مع رفع الدولار الجمركي إلى 15 ألف ليرة، وصولاً إلى نحو 89 ألف ليرة حالياً.
تحسّن أم هشاشة؟
تعافي الجمارك بوتيرة أسرع من الضرائب الداخلية جعل حصّتها من مجموع إيرادات الدولة ترتفع إلى مستويات غير مسبوقة. ففي 2019 شكّلت الجمارك نحو 12.9% من الإيرادات، بينما وصلت في الأشهر الثمانية الأولى من 2025 إلى نحو 29.2%، بعدما تراجعت إلى 6.8% و6.2% في 2021 و2022. هذا المؤشر يعني أمراً أساسياً: المالية العامة باتت تعتمد على الاستيراد أكثر من اعتمادها على النشاط الاقتصادي الداخلي.
أصبحت الموازنة العامّة تعتمد بدرجة متزايدة على الاستهلاك المستورد، في مؤشر على ضعف تحصيل الضرائب الداخلية وانكماش الاقتصاد الحقيقي
وهذا دليل على ضعف تحصيل الضرائب على الأرباح والأجور والأملاك، وتوسّع الاقتصاد النقدي، وانكماش قاعدة الشركات العاملة، وهي عوامل بنيوية تجعل الجمارك مصدر الإيرادات الأكثر «سهولة» مقارنة بالضرائب المباشرة. لكن هذا الاعتماد يُعدّ هشّاً، فالإيرادات الجمركية تتأثر سريعاً بأي تراجع في القوة الشرائية، أو أي تعديل في الدولار الجمركي، أو أي ركود في الأسواق، أو عودة التهرّب الجمركي. ما يعني أن التعافي الحالي قد يكون مؤقّتاً ما لم ترافقه إصلاحات ضريبية أعمق.
إصلاحات جزئية
تحسّن التحصيل الفعلي للجمارك يظهر أيضاً عبر مؤشر الإيرادات إلى الاستيراد. فبينما تراجعت هذه النسبة إلى 0.31% في 2022، عادت وارتفعت إلى 6% في 2025، وهي نسبة قريبة جداً من مستوى 6.46% المسجّل في 2019.
وهذا التحسّن سببه عاملان: الأول هو تحديث الدولار الجمركي الذي أعاد تسعير الرسوم بشكل واقعي، والثاني هو تحسّن التحصيل الميداني وتشديد الرقابة مقارنة بالسنوات الأولى من الأزمة، للحدّ من التهريب.
لكن يبقى هذا التحسّن مرتبطاً بإجراءات آنية، فمن دون تحسين الرقابة الجمركية مثل رقمنة الجمارك، وتطوير نظام إدارة المخاطر، يبقى التحسّن عرضة للتراجع. في الواقع، إن رفع الدولار الجمركي أعاد إيرادات الدولة، لكنه حمل أيضاً كلفة على المجتمع والاقتصاد، ومنها زيادة الأسعار الاستهلاكية مباشرة بعد كل تعديل، وارتفاع كلفة الإنتاج المحلي بسبب الرسوم على المواد الأولية والمعدّات، وهو ما ينعكس من خلال تراجع القدرة التنافسية للسلع اللبنانية محلياً وخارجياً، بالإضافة إلى الأثر التضخّمي في مختلف القطاعات.



