أُدرج على جدول أعمال اللجان النيابية المشتركة أمس، ثلاثة اقتراحات قوانين تتفق على «الاستيلاء» على أصول الدولة ومنحها أو منح إيراداتها للقطاع الخاص واستعمالها في توزيع الخسائر الذي يفترض أن تتحمّله المصارف. أتى هذا الأمر في إطار العنوان الذي أصبح الكل أسيراً له، وهو «ردّ الودائع». وفي الجلسة لم يناقض المضمون، بل جرى التركيز على صلاحيات المجلس في درس القوانين من دون أن تمرّ على اللجان (المال والموازنة، الإدارة والعدل، وغيرهما)، وانتهى النقاش بتشكيل لجان فرعية لدرس الاقتراحات الثلاثة خلال مهلة شهر ونصف شهر، إلا أن كتلة التنمية والتحرير سحبت اقتراحها.
الاستيلاء على أصول الدولة
اقتراحات القوانين الثلاثة، قُدّمت في عام 2023. نواب تكتل التنمية والتحرير (حركة أمل) قدّموا مشروعاً بعنوان «حماية الودائع المصرفية المشروعة وإعادتها إلى أصحابها»، ونواب تكتل الجمهورية القوية (القوات اللبنانية) بعنوان «إنشاء مؤسّسة مستقلّة لإدارة أصول الدولة»، ونواب تكتل لبنان القوي (التيار الوطني الحر) قدّموا مشروعاً بعنوان «إنشاء الصندوق الائتماني لحفظ أصول الدولة وإدارتها». تنطوي هذه الاقتراحات على فكرة واحدة: تجنيب المصارف المسؤولية الرئيسية عن الخسائر، وتحميل القسم الأكبر منها للدولة عبر تجيير أصول وأملاك الدولة وإيراداتها لصندوق يسدّد الودائع.
وتنسجم الاقتراحات الثلاثة، مع سردية المصارف التي تردّد أن الأزمة في لبنان نظامية وبالتالي على الدولة أن تمنحها براءة ذمّة وأن تتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية. وهذه السردية تتعارض مع توجهات صندوق النقد الدولي التي تراعي تراتبية توزيع الخسائر التي تبدأ بالمصارف أولاً ثم تنتقل إلى الدولة والمودع. وهذا ما يوحي بأن «المتسابقين» على هذا المشروع لديهم رغبة في الاستيلاء على أصول وأملاك الدولة والإيرادات المستقبلية التي تتأتّى منها لمنحها لأطراف آخرين. فهذه الأموال هي إيرادات يفترض أن تنفقها الدولة على رعاية المقيمين فيها، لكنها بدلاً من ذلك سيتم تخصيصها. والأطراف الثلاثة التي قدّمت الاقتراحات تتسابق على آليات التخصيص التي تختلف في الشكل الإداري والتنظيمي وتتفق في الجوهر. ووفقاً للاقتراحات الثلاثة، فإن الإيرادات التي تنتجها مؤسسات عامة وشركات خاصة مملوكة من الدولة مثل شركتَي الخلوي وشركة طيران الشرق الأوسط وشركة التبغ والتنباك وغيرها، ستصب، جزئياً أو بشكل كامل في صندوق خاص بردّ الودائع تنتقل إليه حسابات الودائع التي ترفض المصارف تسديدها. ما يعني أنّ الشعب اللبناني سيعمل من أجل تغطية خسائر المصارف. فعلى سبيل المثال، إن إيرادات مطار بيروت الدولي في موازنة 2024 تبلغ 7100 مليار ليرة، وفي حال تطبيق أحد هذه المشاريع، سواء عبر إنشاء صندوق أو مؤسسة لإدارة الأصول، فإن هذه الإيرادات لن تُسجّل في الخزينة بل ستوضع في خدمة الصندوق، ولا أحد قدّم أي تصوّر بشأن تعويض هذه الإيرادات في الخزينة، ما يعني زيادة العجز.
رهن الأملاك والإيرادات
الاقتراحات الثلاثة، هي عبارة عن ثلاث خلطات عجيبة تختلف على طرق إدارة أصول الدولة وآلية تسييلها. فالاقتراح المقدّم من كتلة التنمية والتحرير لم يأتِ على إمكانية بيع أصول الدولة، إلا أنه فتح الباب على إشراك القطاع الخاص في الإدارة مع القطاع العام. والإشراك، أو التشركة، هو أحد أنواع الخصخصة إلى جانب البيع الكامل. فقد أتاح المشروع في مادته الـ15 إصدار سندات مالية بقيمة 5 مليارات دولار مضمونة بجزء من إيرادات الدولة من دون تحديد مدّة قصوى للاستثمار أو تحديد هوية المستفيدين. عملياً الدولة ستقترض وترهن أملاكها بواسطة الشراكة مع القطاع الخاص الذي يملك «حق النقض» في التصويت، أي إنه أصبح شريكاً بكل القرار السيادي.
ويرمي هذا الاقتراح إلى إنشاء هيئتين؛ الأولى لـ«المراقبة والإشراف والعمل على تفعيل دور كل مرفق عام أو شركة مملوكة من الدولة، وكيفية إدارة أي منها واستثماره، وتحديد الطريقة التي يجب أن يستثمر فيها بهدف تحسين إيرادات الدولة». والثانية لـ«المراقبة والإشراف على الأملاك العامة والخاصة للدولة، وكيفية إدارتها واستثمارها». على أن تقوم الهيئتان المنشأتان بـ«إعداد لائحة شاملة بالمرافق العامة والشركات والأملاك الخاصة بالدولة، من ضمنها الشواطئ والأنهار والأحراج، لتبيان طريقة إدارة كلّ منها». وإلى جانب الأموال المحصّلة من مزايدات استثمار أصول الدولة، أضيفت فقرة عن اقتطاع نسبة من أموال النفط والغاز بهدف «تسديد ديون الدولة لدى المصارف التي هي أصلاً من أموال المودعين».
البيع بلا هوادة
ويأتي اقتراح كتلة الجمهورية القوية بشكل أكثر وضوحاً تجاه الخصخصة، إذ يرمي إلى «إنشاء مؤسّسة مستقلّة لإدارة أصول الدولة، تتمتّع بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي، ولا تخضع لأي نوع من أنواع الوصاية»، ما يشير إلى نيّة مقدّمي الاقتراح إنشاء تنظيم إداري ثانٍ في الدولة. وبعكس اقتراح «التنمية والتحرير» الذي أشار بخجل إلى مسؤولية المصارف، خلا اقتراح القوات من أيّ إشارة متعلقة بمسؤولية المصارف عن ردّ الودائع، بل مهّد الطريق لتسليم الدولة بالكامل للقطاع الخاص عبر مؤسّسة تدار بطرق غير مسبوقة، سواء لجهة تعيين مجلس إدارتها المؤلّف من 9 أشخاص (حاكم مصرف لبنان، رؤساء هيئات مستقلة، و5 نقباء مهن حرّة)، أو لجهة إخضاعها للجنة رقابة مموّلة من القطاع الخاص. وستتولى المؤسسة المولودة من رحم الاقتراح القواتي، إدارة أصول الدولة وشركاتها ومؤسّساتها وإداراتها التي تتّسم بالطابع التجاري، ولها صلاحية تعيين الموظفين وصرفهم، بالإضافة إلى إبرام عقود التشغيل وتعيين مجالس الإدارة. كما تشرف هذه المؤسّسة على مؤسّسة أخرى ستنشأ على شكل شركة قابضة هي «المؤسّسة العقارية المستقلّة» تكون كياناً تجارياً يحقّق الأرباح والخسائر، ولديها إمكانية إصدار سندات الدين «وتضع الحكومة بتصرّفها، بموجب مراسيم، العقارات العامّة المبنيّة وغير المبنيّة». ولا يكون لهذه المؤسّسة الحق في البيع أو الاستثمار لمدة تزيد على 50 سنة. وتهدف المؤسستان إلى زيادة الإيرادات، على أن «توزّع مداخيل الشراكة والأرباح التشغيلية والخصخصة على الخزينة، وعلى صندوق إعادة تكوين الودائع المؤسّس بموجب قانون».
التمليك ضمن سقوف
في السياق نفسه، اقترحت كتلة لبنان القوي، تحويل كلّ مؤسّسات الدولة وأصولها إلى شركات مساهمة، وإشراك القطاع الخاص في إدارتها. وينص الاقتراح العوني على إنشاء صندوق ائتماني تُعهد إليه مهمّة إدارة بعض أصول الدولة مثل كهرباء لبنان، المؤسسات العامة للمياه ومصلحة الليطاني، شركات الاتصالات، الريجي، المرافئ والمطارات، المؤسسة العامة للنقل، الكازينو، منشآت النفط، وعدد من المجالس والمؤسّسات المملوكة من مصرف لبنان. ويدير الصندوق في المرحلة الأولى 7 مدراء عامّون، ويمكن لمجلس الوزراء الاستعانة بشركات توظيف عالمية إضافة إلى مجلس الخدمة المدنية ومكتب وزير الدولة للتنمية لاختيار لائحة من المؤهّلين لتعيين مجلس إدارة الصندوق بعد انتهاء المرحلة الأولى.
هذا الاقتراح يختلف عن الاقتراحين الآخرين في أنّه نصّ على تحويل ملكية أصول الدولة إلى الصندوق، بينما نصّت الاقتراحات الأخرى على تحويل سلطة الوصاية أو الإدارة إلى المؤسّسات المنشأة بموجبها، من دون تحويل حقّ الملكية، ما يشير إلى تسهيل بيع أصول الدولة من قبل الصندوق مباشرةً من دون المرور بالتعقيدات القانونية. وتطرّق الاقتراح العوني، صراحة إلى البيع، في الفقرة الثالثة من المادة الثالثة مشترطاً موافقة مجلس الإدارة، وفق سقوف لعمليات التملك التي تكون 5% للمشتري الفردي من أي شركة يملكها الصندوق و7% للشركات، وحظر بيع أي جزء من أسهم الدولة في الشركات التي تُعنى بالمرافئ البرية والبحرية والجوية. ويتم تحويل أرباح الصندوق على النحو الآتي: 30% إلى مؤسسة ضمان الودائع لتسديد ديون المودعين، و35% إلى المناطق الجغرافية الإدارية المنشأة بموجب تنفيذ اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة بالتساوي بين المناطق، بعد حسم الديون الناشئة عن فشل أي منطقة في قمع التعديات على الكهرباء والمياه من حصتها من أرباح الصندوق، و35% لخزينة الدولة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الاقتراح حدّد الحد الأقصى لمسؤولية الدولة عن الوديعة بـ3 ملايين دولار مشترطاً أن تكون الوديعة «معروفة المصدر، وناتجة عن أعمال مشروعة، وسدّد عن مصدرها الضرائب المستحقّة عليها».
جميل السيد: اقتراحات سرقة المستقبل
يقول النائب جميل السيد إن الاقتراحات الثلاثة لم تُناقش في اللجان النيابية المشتركة لأنها لم تمر في أيّ لجنة فرعية، رافضاً توصيف «الخسائر» المعتمد في الأسباب الموجبة الثلاثة للاقتراحات المطروحة للدرس، إذ يرى فيها هروباً من تحمّل المسؤولية «كأنّنا كنّا في لعبة وأخطأنا فخسرنا، بينما الحقيقة تشير إلى أنّ هناك نهباً وهدراً وتحقيقات معطّلة». وسأل السيّد «من يتحمّل مسؤولية هذا الشعار، التعويض لا يكون من أصول الدولة، بل نذهب إلى الأصول ونجمع منها الأموال». ورفض السيّد استخدام أموال الدولة للتعويض على المودعين، الدولة للناس، وأموالها من الناس، ووصف أفكار استخدام الأصول لردّ الودائع بـ«سرقة المستقبل».