انتهكت وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية نجلا رياشي، بدعمٍ من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، مبدأ السيادة الرقمية الوطنية التي نصّت عليها إستراتيجية التحوّل الرقمي. وبحسب معطيات «الأخبار»، اتّفقت رياشي مع البنك الدولي على وضع خطة تنفيذية لإستراتيجية التحوّل الرقمي، وكلّف الأخير شركةً ألمانية (Roland Berger) بدأت بالفعل وضع الخطّة مقابل 300 ألف دولار. فيما أصدر ميقاتي تعميماً (رقم 25/2024) أبلغ بموجبه جميع الوزارات بوجوب إعلام رياشي بتفاصيل المشاريع المتعلّقة بالتحوّل الرقمي، والتنسيق معها قبل عقد أي اتفاق بهذا الشأن، سواء أكان العقد مموّلاً من الموازنة أم من جهات مانحة.وبُرر التعميم بتطبيق إستراتيجية التحوّل الرقمي (2020 – 2023) التي أعدّتها الوزارة، والتي تنصّ على توحيد جهود ومشاريع الإدارات العامة لتحقيق تكامل يضمن توافقها مع رؤية موحّدة للتحوّل الرقمي، بعدما تبيّن أن بعض الإدارات والمؤسسات العامة تنفّذ مشاريع تحوّل رقمي بواسطة هبات أو قروض من جهات مانحة، من دون التنسيق مع وزارة الشؤون الإدارية، ما يؤدي إلى «تشتّت الجهود وهدر الموارد».
غير أن ميقاتي ورياشي لم يتنبّها إلى تشتّت الجهود، حين أطلقت الحكومة الإستراتيجية الوطنية للتحوّل الرقمي من دون إرفاقها بخطةٍ تنفيذية ما جعلها من دون معنى وحال دون تطبيقها، ولا حين بقيت الإستراتيجية لمدة عامين حبراً على ورق بسبب غياب الخطة. وإذا كان مضمون التعميم سليماً لجهة توحيد الجهود، بهدف التكامل وفقاً لرؤية موحدة، فإنّ ذلك لا يُلغي المشكلة الأساسية الكامنة، في رأي قانونيين، في «عدم جواز إسناد ملف سيادي كالتحوّل الرقمي إلى وزارة دولة لم يمنحها الدستور صلاحيات، ولا يمكنها ممارسة سلطة على بقية الوزارات». إضافة إلى أنّ «تكليف وزيرة غير مختصّة كالوزيرة رياشي ذات الخلفية الدبلوماسية، في ملفٍ شديد التخصّص يُخالف أبسط قواعد الإدارة السليمة والحوكمة الرشيدة ويسبب العديد من المشاكل، فعدم التخصص يؤدي إلى قرارات غير مدروسة، وتنفيذ غير فعال، وغياب الرؤية الشاملة والمتكاملة». يُضاف إلى ذلك، أنّ وزارة التنمية الإدارية، لا جهاز إدارياً لديها، وهي تعتمد فقط على موظفين من برامج دولية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، وهولاء ولاءاتهم للجهات المانحة وليس للدولة.
وبحسب معلومات حصلت عليها «الأخبار»، فإنّ خلف التعميم ما هو أبعد من التنظيم، ويتعلّق بـ«أفكارٍ يتمّ بحثها بين رياشي والبنك الدولي حول دعمٍ لوزارتها بمبلغ 300 مليون دولار لإنشاء مركز بيانات Data Center، ولتجهيز الوزارات والمؤسسات بما يلزم». وهنا أيضاً، تدفع الهرولة خلف التمويل بالسلطة إلى التحايل مجدداً، غير مكترثة بعواقب التعامل بخفّة مع السيادة الرقمية.
ويثير مختصون بالرقمنة والأمن السيبراني تساؤلات حول خطوات الوزيرة ورئيس الحكومة، مستغربين «تكليف جهة خارجية بوضع خطة وطنية حساسة ستطبقها وزارات ومؤسسات الدولة برمتها»، و«الأشد خطورة هو إنشاء البنك الدولي لمركز البيانات الوطني الذي يُستفاد منه لتخزين «الداتا» سحابياً للمواقع والتطبيقات والخدمات الرقمية للوزارات والإدارات والمؤسسات العامة، ما يتضارب وأساسيات السيادة الرقمية التي تحتم أن تكون جميع الخوادم ومراكز البيانات داخل لبنان تحت سيادة المؤسّسات الرسمية فقط، وأن تكون الدولة هي المالك الوحيد للبرامج والتطبيقات والخدمات، لأن من يبرمج يمتلك المفاتيح، ويمكنه خرق خصوصية البيانات، ولذلك ركزت إستراتيجية التحول الرقمي على إعطاء الأولوية للطاقات المحلية، وهو ما لم يتم احترامه».
تخلّي الدولة عن مسؤولية إعداد الخطة وإسنادها إلى البنك الدولي الذي عهد بها إلى شركة ألمانية يخلق مخاطر أمنية ناتجة عن الاعتماد على شركات أجنبية لا تفهم حساسية التحديات الأمنية للبنان على مستوى الصراع مع العدو الإسرائيلي وداعميه. فهذه الخفّة تثير مخاوف تتعلّق بالأمن الوطني الإستراتيجي للبنان بصفته دولة تواجه تحديات معقّدة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية – خصوصاً الخارجية منها – وتحتّم أن يتحكّم هو في توجهاته الاستراتيجية في مجالات مثل التحوّل الرقمي. علاوة على أنّ هذا الانتقاص من سيادة الدولة، يُفقد لبنان السيطرة على مستقبل قطاعه الرقمي، وعلى واحدة من أهم أدوات التنمية والتطور في العصر الحديث.
وتلفت المصادر إلى أنّ ما يحدث يعيد الذاكرة إلى النسخة الأولى لإستراتيجية التحول الرقمي التي قدمتها رياشي إلى الحكومة، والتي كانت متخمة بعبارات من قبيل «إشراك الجهات المانحة» و«المعايير الدولية»، حتى «بدا حينها أنّ إعداد الخطة غايته الاستفادة المالية من مشاريع وهبات دولية، ولو على حساب الحماية الوطنية». وبعد جملة ملاحظات من وزير العمل علي حمية، أخذت بها الحكومة، عدّلت رياشي وفريق عملها الخطة لجهة التركيز على سيادية الملف، مع وجود عدد هائل من الجمعيات غير الحكومية التي تصل إلى كمّ هائل من البيانات الشخصية والعامة من دون أي رقابة على طرق استخدامها، وفي ظل انفتاح البلد على كل أجهزة الاستخبارات الدولية.
اللافت أيضاً أن رياشي أرسلت إلى رئيس الحكومة، قبل أسابيع قليلة، مشروع قانون لإنشاء هيئة وطنية تضع الخطة التنفيذية لإستراتيجية التحول الرقمي. وأتت المعلومات عن تكليف البنك الدولي شركة ألمانية بوضع الخطة، قبل أن يصل مشروع القانون إلى مجلس النواب. علماً أن قانونيين يؤكدون أن «الحوكمة الرشيدة تفرض سلوك مسار إداري سليم، يفرض وقف تفريخ هيئة أو مؤسسات عامة جديدة، تتمتع باستقلالين مالي وإداري، وتصرف الأموال كيفما اتفق، وتخضع فقط لرقابة ديوان المحاسبة اللاحقة». إذ «يُمكن إنشاء وزارة تخطيط يُسند إليها الملف وتخضع للرقابة المسبقة للهيئات الرقابية، ويمكن أن تضم مديريات عدّة متخصصة مثل: التحول الرقمي، الأمن السيبراني، التخطيط، الرقابة، والحوكمة…».