شمس الدين لـ “الديار”: 70% من اللبنانيين لا تكفيهم رواتبهم
التحويلات الخارجيّة تسد العجز… والأسعار زادت بين 10 و25%
في لبنان لم يعد السؤال: كيف نعيش؟ بل أصبح: كيف نبقى على قيد الحياة؟ فالاقتصاد يشبه رمالا متحركة تبتلع القدرة الشرائية، بينما الأجور عالقة في زمن آخر، لا تعرف طريقها إلى الارتفاع.
كل يوم، يخوض اللبناني معركة صامتة مع الفواتير، يراجع حساباته كما يراجع المقامر أوراقه الأخيرة، مدركا أن الرهان خاسر، لكن لا خيار أمامه سوى الاستمرار.
أما الأسعار فتتحرك كوحش جامح لا يروضه شيء، تتسابق مع الوقت، وتتضاعف قبل أن يلتقط المواطن أنفاسه، بينما راتبه ثابت في مكانه، كمن يقف تحت المطر الغزير حاملًا مظلة مثقوبة. في هذه المعادلة المختلة، بات السؤال الأهم: هل تكفي مليون ليرة يوميا لإعالة أسرة من خمسة أفراد؟
التضخم يلتهم مداخيل اللبنانيين
في سياق اقتصادي متصل، توصلت الإدارة المركزية للإحصاء، بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي في تشرين الثاني 2024، من خلال تقرير أعدّته، الى أن كلفة الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة لعائلة من خمسة أفراد بلغت 40.5 مليون ليرة لبنانية (ما يعادل 449 دولارا)، بينما قفزت كلفة تلبية الاحتياجات الأساسية إلى 50.3 مليون ليرة (559 دولارا)، مسجلة زيادة سنوية تتراوح بين 19% و23%. هذه الأرقام لا تعكس مجرد تضخم اقتصادي، بل تكشف عن واقع يتفاقم قسوة، حيث أضحى تأمين الحد الأدنى للمعيشة معركة يخسرها المعوزون يوميا.
ورغم أن بعض السلع شهدت استقرارا طفيفا، فإن تكلفة السلة الغذائية الدنيا للفرد، ارتفعت إلى 3.41 مليون ليرة (37.6 دولارا)، ما يمثل زيادة بنسبة 10% مقارنة بالعام الماضي، بينما عَلَت كلفة السلع والخدمات غير الغذائية بوتيرة أسرع، اذ بلغت كلفة السلة غير الغذائية الدنيا للأسرة 23.5 مليون ليرة، مسجلة ارتفاعاً سنوياً بلغ 28%.
في ظل هذه الأرقام، يبقى السؤال: هل تكفي المساعدات المقدمة لتغطية هذه النفقات المتزايدة؟ الواقع يقول غير ذلك، فبرنامج “أمان” التابع للبنك الدولي، رغم أنه يمنح بعض الأسر الأكثر فقرا 20 دولارا للفرد شهريا للطعام و25 دولارا للأسرة للنفقات الأخرى، فإنه لم يعد يغطي سوى 53% من الاحتياجات الغذائية، متراجعاً من 58% العام الماضي، بينما لا يغطي سوى 10% من النفقات غير الغذائية.
أما اللاجئون السوريون، فرغم تعديل المساعدات النقدية اعتبارا من تشرين الثاني 2024، ليحصل كل فرد على 20 دولارا للطعام و45 دولارا للأسرة للمصاريف غير الغذائية، فإن الغلاء التهم هذه الزيادة، حيث باتت تغطي فقط 53% من كلفة الغذاء و17% من النفقات الأخرى.
التضخم يواصل صعوده والمواطن يدفع الثمن
بحسب الدراسة، سجل مؤشر أسعار المستهلك (CPI) زيادة شهرية بنسبة 2.3% في تشرين الثاني 2024، فيما سجل التضخم المالي الفصلي 4.2%، بينما استقر المعدل السنوي عند 15%، وهو أدنى مستوى منذ شباط 2020، لكن ذلك لا يعني تحسنا فعليا، بل استقرارا نسبيا في الأزمة المستمرة.
أما أسعار المواد الغذائية، فقد زادت بنسبة 3%، رغم أنها شهدت تباطؤًا مقارنة بالشهر السابق، في حين وصل تآكل القدرة الشرائية الغذائية السنوية الى 23%. أما أسعار الطاقة، فسجلت زيادة طفيفة 0.1%، لكن الارتفاع الأكبر كان في مؤشر المياه والكهرباء والغاز والوقود، الذي قفز بنسبة 8.4%، ليكون المحرك الأساسي لارتفاع التضخم.
نفقات تتعاظم وأجور في سبات
أمام هذا الواقع، يبدو اللبناني وكأنه يركض في سباق خاسر مع الأسعار، فيما الدولة غائبة عن المشهد، لا حلول ولا خطط، بل تركت المواطنين ليواجهوا مصيرهم وحدهم. فماذا بعد؟ هل يبقى اللبناني عالقًا بين تضخم لا يرحم، وأجور مجمدة في زمن انتهت صلاحيته؟ ام ان الحكومة الجديد ستعمل على استحداث صيغة عادلة في الأشهر المقبلة؟
في خضم هذه الأرقام المتسارعة، التي ترسم ملامح الفقر في لبنان، تتجلى المفارقة الصارخة بين مَن يكافح ليلاً ونهارا لتأمين لقمة العيش، ومن تضمن له المساعدات الخارجية شريانا للبقاء. فالتقرير الذي أعدّته الإدارة المركزية للإحصاء بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي في تشرين الثاني ،كشف بالأرقام حاجة اللبنانيين المتزايدة، لكنّه في الوقت نفسه، سلط الضوء على واقع اللاجئين السوريين الذين، رغم ظروفهم الصعبة، يتلقون مساعدات نقدية ثابتة من الأمم المتحدة، ما قد يجعلهم في بعض الحالات أكثر قدرة على سد حاجاتهم اليومية من اللبناني، الذي يجد نفسه مرهونا لراتب لا يواكب التضخم.
الحياة أصبحت معركة وجودية بلا هدنة
في ضوء ما تقدم، هل تعكس هذه الأرقام الحقيقة الكاملة؟ لمعرفة مدى دقتها، توجهت “الديار” إلى الباحث في الدولية للمعلومات السيد محمد شمس الدين، حيث أشار إلى “أن الأرقام تختلف تبعا للمنهجية المستخدمة. فبينما تعتمد الدولية للمعلومات على المفهوم التقليدي للإنفاق والدخل كمعيار للفقر، تسلك الإدارة المركزية للإحصاء مسارا آخر، حيث تبني تقديراتها على مفهوم “الفقر متعدد الأبعاد”، الذي لا يقتصر على الدخل فحسب، بل يشمل عوامل أخرى مثل التعليم، الصحة وإمكانية الوصول إلى الخدمات الأساسية”.
ووسط هذين النموذجين، يتأرجح المشهد اللبناني بين الفقر المعلن بالفواتير والنفقات التي تتراكم بلا رحمة، وبين الفقر المستتر الذي تصفه المؤشرات، لكنه يتجاوز البيانات إلى واقع يعيشه الناس يوميا. فهل نحن أمام حسابات تعكس جوهر الأزمة؟ أم أن كل جهة تقرأ الفقر من زاويتها الخاصة؟ تاركة المواطن تائها بين المعادلات والنسب المئوية، بينما الحقيقة الوحيدة الثابتة هي أن الحياة في لبنان أصبحت معركة وجودية بلا هدنة؟
نسبة الشظف أكثر من نصف اللبنانيين!
وفي هذا الإطار، يوضح الباحث في “الدولية للمعلومات” السيد محمد شمس الدين لـ “الديار” أن “التضخم الذي نشهده حاليا، أدى إلى ارتفاع الأسعار بنسبة تتراوح بين 10% و25% خلال العامين الماضيين، رغم استقرار سعر صرف الدولار”.
ويقدّر “أن نحو 30% من اللبنانيين يتمكنون من تأمين مستلزمات الحياة والعيش بشكل مستقر بفضل رواتبهم، في حين أن 70% من المواطنين لا تكفيهم أجورهم“، لكنه يشير إلى أن “هؤلاء ليسوا جميعا في حالة عوز، إذ يعتمد عدد كبير منهم على التحويلات المالية من الخارج، والتي تسد العجز في الرواتب والأجور”.
ويضيف: “عندما نقول إن نسبة الفقر في لبنان تقارب 55%، ثم تصدر إحصاءات عن البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي تشير إلى أن النسبة تبلغ 85%، فإن الاختلاف يكمن في المعايير المعتمدة. نحن نرتكز على مفهوم الفقر التقليدي القائم على الدخل، بينما تعتمد الجهات الدولية مفهوما جديدا يُعرف بـ “الفقر المتعدد الأبعاد”. لذا، وفقا لهذا التصنيف، يُعتبر الفرد فقيرا إذا لم يكن لديه مدخرات أو حساب مصرفي أو ضمان صحي، حتى لو كان دخله يكفي احتياجاته الأساسية”.
ويتابع موضحا: “في إحصاءاتنا، نعتمد المفهوم التقليدي للفقر، الذي يرتكز على مستوى الدخل. لذلك، بالنظر إلى الرواتب والأجور الحالية، وارتفاع أسعار السلع والخدمات، بما فيها الكهرباء والاتصالات ورسوم الخدمات العامة مثل الهاتف والميكانيك، نجد أن تكاليف المعيشة أصبحت مرهقة. على سبيل المثال، وصلت فاتورة مياه الدولة مؤخرا إلى نحو 16.5 مليون ليرة سنويا، أي أكثر من 1.2 مليون ليرة شهريا، ومع ذلك، لا تكفي هذه الكمية حاجة المواطنين نظرا لانقطاعها المتكرر، مما يضطرهم إلى شراء صهاريج إضافية ومياه صالحة للشرب. بناءً على ذلك، أؤكد أن 70% من اللبنانيين لم تعد رواتبهم كافية لتغطية نفقاتهم الأساسية”.