ثمّة علاقة متناقضة مستمرة بين متغيّرين مهمّين في أي اقتصاد رأسمالي هما: الأرباح الرأسمالية والأجور. حصّة كل منهما، من الناتج المحلّي، تعبّر عن وضع الاقتصاد والمجتمع.
وبحسب دراسة أجراها «بلوم إنفست» فقد تبيّن أن الفروقات الكبيرة بين هذين المتغيرين تعبّر عن تفاوت كبير في المداخيل بين طبقات المجتمع، إذ تبيّن أنه في الفترة ما بين 2004 و2019 كان متوسط حصّة الأرباح الرأسمالية من الناتج المحلي 45% مقابل 55% للأجور.
ماذا يعني أن تكون في لبنان حصّة الأرباح الرأسمالية من الناتج أعلى من المتوسّط العالمي البالغ 38%، وأن تكون حصّة الأجور من الناتج أقلّ من المتوسط العالمي البالغ 62%؟
بحسب الدراسة نفسها، تبيّن أن لبنان غارق في هذا النمط الذي يمجّد الأرباح الرأسمالية على الأجور، وهو ما يخلق هوّة كبيرة في المداخيل. وقد حصل الأمر في سياق التحوّل الذي طرأ مطلع تسعينيات القرن الماضي، عندما تحوّل اقتصاد لبنان إلى ريعي، ويعتمد أكثر على الخدمات مقابل التخلّي عن الإنتاج. عملياً، شهد الاقتصاد نوعاً من «الأَموَلَة»، فأصبح كثير من اللبنانيين يعتمدون على توظيفات مدّخراتهم وثرواتهم في المصارف التي كانت تدرّ فوائد مرتفعة نسبياً. وهذه الودائع، لم تكن توظفها المصارف في قروض تموّل الاقتصاد اللبناني باستثمارات منتجة، بل كانت بغالبيتها تصب في مصرف لبنان على شكل توظيفات مدرّة للفوائد، وكان بدوره يستخدم جزءاً مهمّاً منها في تمويل عجز الميزان التجاري. وكانت هذه النقطة الأساس في الوصول إلى الأزمة سنة 2019.
بهذا المعنى، لم تكن التوظيفات في القطاع المصرفي، تشغل في الاقتصاد بما يُسهم في خلق دورة منتجة تخلق بدورها الوظائف وترفع حصّة الأجور من الناتج المحلّي. بل على العكس، ما لم يكن يُوظّف لدى مصرف لبنان، كان يذهب على شكل قروض استهلاكية، أو قروض إسكان، والقليل منها كان يُوزّع على شكل توظيفات في قروض القطاعات المنتجة، كالقطاعين الزراعي والصناعي.
في منتصف 2019، وبحسب أرقام مصرف لبنان، فقد بلغت حصّة الزراعة والصناعة من الإقراض المصرفي للقطاع الخاص في لبنان نحو 12% فقط. وفيما وصلت محفظة قروض القطاع الخاص إلى 66 مليار دولار، لم يوظف منها في القطاع الزراعي سوى 823 مليون دولار و7 مليارات دولار في القطاع الصناعي.
المهم في الأمر، أن القيمة المضافة التي تخلقها القطاعات المنتجة تكمن في تعزيز الإنتاج المحلي وخلق الوظائف. وحتى لو وُظّفت رؤوس الأموال في المصارف، وكانت أرباح رأس المال عليها مرتفعة، فإنه في حالة إعادة توظيفها في قروض من هذا النوع، فذلك يمكن أن يُحدث توازناً بين نموّ الأجور ونموّ الأرباح الرأسمالية، إلا أن عدم عودة هذه الأموال إلى الاقتصاد إلا عن طريق قنوات الاستهلاك (سواء من خلال دعم مصرف لبنان للعملة أو من خلال قروض الاستهلاك)، كان محفّزاً لازدياد الأرباح الرأسمالية مقارنة بالأجور في الاقتصاد، علماً أن النموذج المصرفي كان قائماً على زيادة الفوائد من أجل جذب المزيد من رؤوس الأموال، وهذا ما كان يعتمد عليه نظام «البونزي» الذي كان قائماً واستعرّ بعد عام 2011 عندما بدأ الحساب الجاري بتسجيل عجزٍ متتال. وهو ما حفّز أيضاً زيادة الارتفاع في الأرباح الرأسمالية.
تصحيح هذا المسار يكون عادة من خلال تدخّل الدولة. وقد يكون التدخّل عن طريق السياسة النقدية أو عن طريق السياسة المالية. لكن في هذه الحالة من المنصف القول إن السياسة النقدية كانت شريكة في صنع هذه الهوة بين الأرباح الرأسمالية والأجور. لذا قد يكون الحل من خلال اعتماد سياسة مالية مختلفة.
يقول الاقتصادي توماس بيكتي، إن مواجهة هذا المسار المتزايد في اللامساواة تقتضي على الحكومات أن تطبّق سياسات ضريبية تستهدف الأرباح الرأسمالية والثروات، وذلك من أجل إغلاق الهوة. ويضيف «إن الطموح هو أن تؤدي الضرائب الأعلى على الدخل الرأسمالي إلى خفض العائد بعد الضريبة على رأس المال وبالتالي تميل إلى الحد من التفاوت في الدخل، وفي نهاية المطاف، الثروة. ومن شأن الضرائب على الثروة أن تعالج التفاوت في الثروة بشكل مباشر».
بشكل عام، فان المسار المضاد يتشكل من خلال العمل على إعادة توزيع الثروات، لأن اللامساواة في الدخل، تترجم نهائياً في تراكم الثروات. ما يعني أن عكس المسار يكون من خلال إعادة توزيع الثروة الذي يتم من خلال السياسة المالية، بالتزامن مع إعادة النظر في السياسة النقدية، كونها أدّت إلى مسار التفاوت هذا بين حصة الأرباح الرأسمالية وحصّة الأجور.
إعادة توزيع الثروة من خلال السياسة المالية، تتم عبر الضرائب، والتي تأخذ نسبة من الأرباح الرأسمالية ومن الثروات المتراكمة وتعيد توزيعها في الاقتصاد عبر الخدمات التي تقدّمها الدولة، وبهذا تكون الدولة قد زادت من نسبة «الأجر الاجتماعي»، وهذا أحد الأساليب لتضييق هوّة اللامساواة في الدخل.
صحيح أن هذا الأمر لا تلحظه مؤشرات اللامساواة في المذاهب الاقتصادية الرأسمالية، إلا أنه يصنع فرقاً على أرض الواقع، على الأقل من خلال خفض كلفة المعيشة.
قد لا تكون السياسة المالية ذات رواج في نظريات الاقتصاد السائد، الذي يتّجه نحو النيوليبرالية وتقويض دور الدولة في الاقتصاد. وقد ينعكس هذا الأمر على السياسات التي ستحاول الحكومة تطبيقها في الفترة المقبلة، علماً أن المؤسسات الدولية التي ستتعامل معها الحكومة ستسعى لتوجيه الاقتصاد اللبناني نحو النيوليبرالية.
إلا أن البنك الدولي، تحدّث في أحد تقاريره عن لبنان في السنوات الأخيرة، عن فكرة الضريبة على الثروة، وكيف يمكن أن تسهم في تحسين أوضاع المالية العامّة. لذا، قد لا يكون صعباً إقناع هذه المؤسسات بفكرة استخدام السياسة المالية من أجل إعادة توزيع الثروة بشكل أعدل. وهذا يحتاج إلى خطّة تواجه فيها هذه الحكومة المؤسسات الدولية وتفاوض على أساسها برامج، سواء مع صندوق النقد أو مع البنك الدولي.