بالرغم من أن منظمات المجتمع المدني في لبنان، أو ما يُعرف بـNGOs قد نشأت منذ ما قبل الإستقلال، تحت اسم الجمعيات الأهلية غير الحكومية، وعملت في مجالات إجتماعية وإنسانية وتربوية متعددة، إلا أن دورها الاقتصادي بدأ يلفت الانظار. لا سيما منذ إندلاع الازمة السورية في العام 2011 وما تبعه من نشاط للجهات المانحة، لا سيما الولايات المتحدة الاميركية، ودول الاتحاد الاوروبي التي تخصص 0.7% من ناتجها القومي، كمساعدات للدول النامية (الوكالة الاميركية للتنمية USAID تخصص سنويا 35 مليار دولار لبرنامج مساعداتها حول العالم). ثم إزداد تبلور هذا الدور مع الانهيار الاقتصادي في العام 2019، بعد انتفاضة 17 تشرين وازداد زخمها بعد إنفجار مرفأ بيروت وما تسبب به من دمار لأحياء واسعة من العاصمة. إذ عمدت المنظمات الدولية والعربية وبعض الدول الأجنبية إلى مساعدة المتضررين عبر هذه الجمعيات الأهلية، لعدم ثقتها بمؤسسات الدولة. وتزايد عدد جمعيات المجتمع المدني بعد هذا التاريخ مع التمويل لها.
الإجمالي 6000 والعامل منها 3306
بلغة الارقام، وبحسب مصدر متابع لهذه الجمعيات لـ»نداء الوطن»، هناك 500 جمعية ناشطة في لبنان، على الصعد التربوية والبيئية والصحية والتنمية الاقتصادية، وتُدخل الى لبنان ما يزيد عن نصف مليار دولار سنوياً. علماً أن سجلات وزارة الداخلية والبلديات اللبنانية تتضمن أسماء ما يزيد على 6000 جمعية أهلية، (بما فيهم أسماء الاحزاب والنوادي الرياضية)، أو غير حكومية، منها 3306 جمعيات تعمل في شكل فعلي وتتمتع بمشروعية. بينما العدد الباقي متخلِّف عن الالتزام بالمعايير التنظيمية، التي يفرضها قانون الجمعيات الصادر عام 1909 والمراسيم التطبيقية اللاحقة له.
هذه الارقام اللافتة لعدد الجمعيات، والتمويل الذي يُقال أنه يصلها بشكل سخي وكبير، يجعل البحث عن مدى مساهمتها في الدورة الاقتصادية (المتعثرة في لبنان) مشروعاً. خصوصاً أننا نعيش إنهياراً إقتصادياً غير مسبوق، ومظاهر البؤس ظاهرة في كل المجتمعات المحلية، من شمال لبنان إلى جنوبه. مع العلم أن العديد من الاحزاب والجهات السياسية النافذة أسست جمعيات لها طابع إقتصادي لدعم جمهورها، وتتلقى التمويل من العديد من الجهات المانحة الاوروبية والاميركية وغيرها. في حين أن هناك جمعيات للمجتمع المدني أسسها لبنانيون مدنيون، وسجلوا حراكاً إقتصادياً في أكثر من منطقة.
مركز بيروت للتنمية وحقوق الانسان: طابع بيئيالمركز هو واحد من هذه الجمعيات، ويشرح رئيس المركز أحمد شمس الدين لـ»نداء الوطن» أن «إهتمامهم ينصب على تأسيس مشاريع إقتصادية لها طابع بيئي، بهدف خلق مصادر تمويل ذاتية لهذه المشاريع، من دون الاعتماد على الهبات والتمويل من الخارج. وتساهم في الوقت عينه في حل مشكلة إجتماعية للمجتمع المحلي المستهدف، وتكون كمورد مالي للجمعية». ولفت إلى أن «المركز، وبناء على هذه الرؤية الاقتصادية، أنشأ مشروع تجميع الاطارات التالفة في منطقة البقاع، وبالتعاون مع معمل يقوم بتدوير هذه الدواليب، ويشتري الحديد الموجود فيها».
يضيف: «المشروع الثاني يتعلق بالدعم الزراعي للمجتمعات المحلية، من خلال دعم المزارعين في بلدة المغيرية (الشوف)، بالتعاون مع جمعية أخرى، وبدعم من مجموعة بسمة الدولية، وبتمويل من الوكالة التركية للتنمية. ويستهدف المشروع ذوي الدخل المحدود وصغار المزارعين والنحّالين، من خلال توزيع دجاج بلدي لإنتاج البيض، وقفران نحل لـ50 نحالاً مع العدة اللازمة لها».
من المشاريع الاخرى التي أنشأها المركز، هو مشروع تمكين إقتصادي للنساء (ما فوق 18 عاماً)، الذي اقام 12 دورة مهنية ( خياطة / تطريز/ مونة/ تعليم حياكة النول)، وأشغال يدوية، وهذا المشروع بتمويل من الوكالة الاميركية للتنمية. وفي المجال الصناعي دور المركز إجراء دراسات قانونية لتطوير القوانين الصناعية التي تعتمدها الدولة اللبنانية. ويشرح شمس الدين أن «الصناعات التدويرية هي صناعات صديقة للبيئة، ويجب خلق سند قانوني لعملها، ولا يجب أن تُعامل كالصناعات الضارة بالبيئة. لذلك نقوم بإعداد هذه التعديلات بالتعاون مع الوزارة وغرف الصناعة والتجارة وجمعية الصناعيين، بما يسهل عمل الصناعيين الصغار».
ويلفت إلى ان «كل النشاطات التي نقوم بها وتعنى بالبيئة وإعادة التدوير، هي بالمشاركة مع الحركة البيئية اللبنانية، والتي تهتم بالمشاريع البيئية المنتجة إقتصادياً وإحتماعياً، وتخلق فرص عمل وتخفف النفايات الموجودة في المناطق. والعدد نحو 60 جمعية على صعيد لبنان كله»، مشيراً إلى أن «هذا التعاون يثمر مشاريع مشتركة في المناطق العشوائية، (التعمير عين الحلوة، والعاملون بالمئات…)، حيث تمّ ترميم المباني وخلق حركة إقتصادية في المناطق المستهدفة من خلال تشغيل أبنائها، في عمليات الترميم وحملات نظافة مدفوعة وترميم في شوارع صيدا القديمة».
ويوضح أن «هناك مشاريع أخرى بالتعاون معundp، لتنظيف الغابات والمحميات في المناطق، (تشحيل الغابات) تحصل بالتعاون مع وزارة الزراعة، ومراكز الاحراج في المناطق. ويتم تشغيل لبنانيين وسوريين، وتراعي فيها معيار الجندر(حصة السيدات من العمل)، وهذه المشاريع تؤمن وظائف لآلاف الاشخاص، لفترات معينة (كل موسم 10 آلاف شخص على مستوى كل لبنان)».
يؤكد شمس الدين أن هذه الجمعيات تحقق أرباحاً، لافتاً إلى أنهم «يجنون ما يكفي لتغطية المصاريف التشغيلية، وبما يؤمن الإستمرارية. وهناك جمعيات تحقق أرباحاً كبيرة، وخصوصاً التي تهتم بإنجاز الدراسات».
ويختم: «من يضع معايير تكلفة هذه الدراسات، هي الجهات المانحة وليست الجمعيات. ولذلك المسؤولية تقع على هذه الجهات وليس على أعضاء الجمعية، كما أن هذه الجمعيات تخصص نحو 50% من تبرعاتها للإستشارات والدراسات، والقسم الباقي للمساعدات الإنسانية والاغاثية».
البيت اللبناني للبيئة: فرز، تدوير… وتنظيف
هو واحد من جمعيات المجتمع المدني، التي تقوم بنشاط إقتصادي في منطقة الشوف. ويوضح رئيسه الشيخ نظام بو خزام لـ»نداء الوطن» أن «الجمعية تهتم بالبيئة والمواطنة، والتوعية حول الملفات البيئية. ولا سيما ما يتعلق بالنفايات، أي فرزها وتصديرها إلى معامل إعادة التدوير في منطقة الشوف»، لافتاً إلى أنه «لدى الجمعية موظفون يقومون بجولات على البلديات، والمؤسسات والمواطنين (وفقا لخريطة)، لجمع النفايات القابلة للتدوير. ولدينا مركز لإستقبال المواطنين الذين يفرزون النفايات الصلبة القابلة للتدوير، فنشتريها منهم مقابل بدل مالي، وهذا يؤمن دورة إقتصادية للمجتمع المحلي».
يضيف: «تتعاون الجمعية مع 43 بلدية لتدوير النفايات. والتمويل من الاتحاد الاوروبي و
USAID و MERCY CORPS. وتوظيف اليد العاملة في المنطقة يتم بعد مشاريع نقدمها للجهات المانحة، وبعد الموافقة عليها (مثل تنظيف شاطئ الجية مثلاً)، نقوم بتوظيف يد عاملة محلية وسورية بمعدل أربع لبنانيين مقابل سوري واحد غير مسجل كلاجئ». مشيراً إلى أن»أهالي المنطقة يطالبوننا بالقيام بمشاريع وحملات طلباً للعمل، وقبل جائحة كورونا كنا ننظم 3 حملات سنوياً، وبعدها تراجع عدد المشاريع التي نحصل على تمويل لها».
ويختم: «بعد دخول البلاد في الفراغ الرئاسي، أبلغتنا الجهات المانحة أنها ستتوقف عن تمويل المشاريع إلى حين عودة الحياة السياسية إلى طبيعتها، ربما تخوفاً من حصول خضات توقف هذه المشاريع. علماً بأن منطقة الشوف ليست أولية عند المنظمات الدولية، بل تركز على مناطق الفقر في عكار والبقاع».
جمعية «سيدر للعناية»: مزرعة… مشتل ومحمية
في بيروت تتحدث رئيسة «سيدر للعناية» عفت إدريس، لـ»نداء الوطن»، عن نشاطات الجمعية الاقتصادية، وآخرها إنشاء مزرعة للدجاج في البقاع، حيث كان يتم توزيع 350 بيضة يومياً، بمواصفات ممتازة للأسر المحتاجة في بيروت، ونبيع 150 بيضة لتغطية التكاليف. هذه المزرعة كان من المفروض أن تتطور، لكن بعد المشكلة التي لحقت بالعلف(التهريب)، تمّ إيقاف نشاط هذه المزرعة ولدينا النية لإكماله».
تضيف: «حالياً نعمل على إعادة العمل في مشتل تابع لبلدية بيروت ونقوم بصيانته، من أجل إنتاج الشتول والسماد العضوي، تمهيداً لبيعه وتوزيع جزء منها على المساحات الخضراء في بيروت. كما أننا نعمل على إعداد مشروع لزراعة الفطر».
من نشاط الجمعية أيضاً تحويل شاطئ الرملة البيضاء، إلى محمية بحرية بالتنسيق مع وزارة الاشغال والنقل. حيث تم توظيف 60 شخصاً، كانوا من دون عمل خلال فصل الصيف، وتنوعت أعمالهم بين الخدمات والصيانة والمراقبة، وكنا نعتمد على الكافيتيريا لتسديد أجورهم، وحالياً لدينا 15 موظفاً في فصل الشتاء».
وتختم: «نحاول الاستمرار بالرغم من الاوضاع الاقتصادية، وأن لا يكون التمويل الذي نحصل عليه، هو الاساس للإستمرار بل المردود المادي لهذه المشاريع. إذ إن تمويلنا يتم عن طريق اصدقاء لبنانيين للجمعية، من النادر ان نلجأ الى جهات دولية، وغالباً ما تكون مساعدات عينية».
بدارو: تجارب جيدة… لا ترقى لتشكيل قاطرة إقتصادية مستدامة
يشرح الاقتصادي المخضرم روي بدارو لـ»نداء الوطن» أن «فكرة المساعدات التي تقدمها الهيئات الدولية للمجتمع المدني في بلد من البلدان، بدأتها الولايات المتحدة الاميركية بعد الحرب العالمية الثانية (خطة مارشال لمساعدة أوروبا)، بسبب الدمار الهائل الذي لحق بالدول الاوروبية جراء الحرب، ولا سيما ألمانيا وفرنسا وبريطانيا». وأشار إلى أن «الرئيس الاميركي الراحل رونالد ريغين جدّد هذا الدعم، بعد زيارته للإتحاد السوفياتي في ثمانيانات القرن الماضي، وأسس 3 مؤسسسات ممولة من الكونغرس الاميركي، مهمتها المساعدة في تطوير الانظمة وترسيخ فكرة الديمقراطية والاسواق الحرة».
يضيف:» بعدها تولت هذه المهمة منظمة USAID، وتبعتها منظمات اوروبية (تابعة لدولها). كان هدفها مساعدة البلدان في طور النمو، بنسبة معينة من دخلها القومي (0.7%)، وهذا ما سمح بتمويل مجموعات لديها مؤسسات تعتني بتطوير بلدانها». واعتبر بدارو أن «الاثر الاقتصادي لهذا الدعم، هو نقل الخبرات من هذه الجهات الى جمعيات المجتمع المدني، وكيفية مقاربة مشاكل الفقر، وتطوير قدرات المجتمع المحلي لمواجهته. وهناك جمعيات تعنى بالدعم الاقتصادي المباشر، وإعمار بلدان كما حصل في العراق واليمن (قبل الحرب)».
ويرى أن «المساعدات التي تقدم لجمعيات المجتمع المدني في لبنان، تساعد على تطوير الاقتصاد المحلي لبعض القرى والمناطق وهذا أمر إيجابي. لكن الاهم هو ان تعمل الحكومات على تفعيل هذه المساعدات، والاستفادة منها. وهذا أمر لا يحصل، ليس فقط في لبنان بل في العديد من البلدان، إذ لا يتم تثمير المساعدات الخارجية، لتكون قاطرة لمشاريع إقتصادية مستدامة».
يضيف: «هذه المساعدات لا يمكن أن تفرمل الانهيار الحاصل في لبنان، لكنها يمكن ان تكون الضمادة التي توقف نزف الجروح. أي أن فعاليتها وأثرها الاقتصادي موضعي. فالتمويل ليس كبيراً ونصفه يعود للجمعية التي تتعاطى بتقديم المشاريع»، معتبراً أن «ما يفرمل الانهيار الاقتصادي الحاصل هو ان يأخذ المسؤولون في البلد بعين الاعتبار النصائح والارشادات الدولية للخروج من المأزق الاقتصادي، وهذا ما لا يحصل في البلدان التي ينخرها الفساد».
ويختم: «هناك مؤسسات في لبنان تقوم بجهد كبير يجب تقديره، ويمكن أن يكونوا مثالاً يحتذى لأي تجربة مماثلة يمكن أن تبدأ لاحقاً».