الحلقة المُفرغة للفقر هي تلك الكوكبة الدائرية الشكل والمؤلفة من كلّ القوى التي تميل إلى التحرك والتفاعل بما يجعل الفقير أكثر فقراً. فالرجل الفقير هو ذاك الذي لا يحصل على ما يكفي من الطعام ما يجعله ضعيفاً. وكنتيجة للضعف، تنخفض قدراته، الأمر الذي يتسبّب بانخفاض دخله أكثر، ليصبح في نهاية المطاف فقيراً لا بل مُعدماً.
حذّر البنك الدولي في تشرين الثاني 2019 من ازدياد نِسَب الفقر في لبنان الى حوالى 50% إن لم تُستعد الثقة بالاقتصاد اللبناني. وكذلك، يمكن أن تشهد البطالة مستويات غير مسبوقة، وهو السيناريو المرجّح من قِبل غالبية الخبراء الاقتصاديين. ومع تعمّق الازمات الاقتصادية والنقدية والسياسية ، تتكاثر المخاوف من ارتفاع مستويات الفقر في جميع أنحاء لبنان. وعلى الرغم من أن بعض المحلّلين يعتقدون أن بإمكان البلاد تحويل ثرواتها المالية على المدى الطويل، يُحذّر آخرون من أن التظاهرات العنيفة ستنمو لا محالة مع انخفاض مستويات المعيشة أكثر خصوصاً مع التخوّف المتزايد ممّا قد يحمله المستقبل القاتم حيث تهبط مستويات المعيشة على نحو مطّرد. لقد أدى تراجع الثقة في القطاع المصرفي في البلاد إلى تغذية التضخم، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار. مع تعثّر الإيمان بالاقتصاد، تُغلق الشركات أماكن التسوق أو تُسرّح الموظفين، مما يؤدي إلى طرد المزيد والمزيد من العاملين.
يُفنّد البنك الدولي الافتراضات الرئيسية لمحاكاة تأثير الأزمة المرتقبة خلال عام 2020 الجاري، ويتوقّع أن يكون نمو الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للفرد حوالى 17.7%. من المرجّح كذلك أن يبلغ معدل التضخم حوالى 22.4%، هذا يعني أن الأُسر ستفقد أكثر من 4.7 % من استهلاكها. لذلك أصبح من شبه المؤكد أن تأثير الأزمة على معدّلات الفقر والفقر المُدقع سيكون كارثياً وهو ما يُظهره الرسم البياني (المرفق) الذي يُشير الى أنّ خطّ الفقر سيتخطّى حوالى 41% من اللبنانيين خلال الـ2020 اذا استمرت الأوضاع على هذا المنوال، كما ستصل نسبة الذين يرزحون تحت آفات الفقر المُدقع إلى 20% بعدما ارتفعت هذه النسبة من 10% عام 2012 الى 13.7% خلال العام المنصرم.
البطالة… جنون
باختصار، يعيش أكثر من ثلث اللبنانيين في فقر وهذه النسبة مقبلة الى ارتفاع لتلامس 50% إذا استمرت الاوضاع الاقتصادية والنقدية بالتفاقم. وهكذا، فإنّ كلفة إعادة معدلات الفقر في الـ2020 كما كانت عليه عام 2019 قد تتخطّى بحسب عدد من المتابعين 733 مليون دولار لا سيّما وأنّ نسب البطالة ترتفع بشكل جنوني خصوصاً بين الشباب.
عن الموضوع يوضح منسّق الادارة السياسية في حزب “الكتلة الوطنية” أمين عيسى أنّ “محاربة الفقر لا يمكن أن تتمّ الا من خلال قرار سياسي صادق، وهو ما نفتقر اليه حتى الساعة. فقد رصدت موازنة العام 2020 حوالى 4 ملايين و300 ألف دولار لمكافحة الفقر، في وقت كنا قد تقدّمنا بمشروع بـ109 ملايين دولار لتسوية أوضاع 235 ألف شخص يندرجون في خانة “الأكثر فقراً” أي أنهم يعيشون بأقل من 5،6 دولارات في اليوم. ولكن هذا العدد مقبل على ارتفاع ليتخطى الـ700 ألف تحت خط الفقر نتيجة للأزمة الراهنة. وذلك يعني أن الدولة ستحتاج الى 300 مليون دولار لتحسين أوضاع هؤلاء فيما هي لم ترصد سوى 4 ملايين”.
ويضيف عيسى “موازنة قادرة على رصد مبالغ كبيرة للاستملاكات ولفرش الوزارات واستئجار سيارات، قادرة حتماً على إيجاد سبل لحلّ هكذا قضية انسانية بامتياز. فكيف لهم الاستمرار بالمناكفات السياسية والتجاذبات بهكذا ملفّ من المفترض أن يولى الأولويّة؟!”.
الفقر الجماعي
يُعدّ استمرار الفقر – في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء – أحد أخطر المشكلات التي تواجه البشرية جمعاء. ويُعتبر قياس الفقر أمراً ضرورياً لزيادة الوعي وتحفيز العمل وتصميم سياسة جيّدة ومحاسبة القادة السياسيين الذين ساهموا في زيادة نسب الفقر من خلال أدائهم.
وهكذا، اعتمدت الأبحاث المعاصرة حول عدم المساواة إلى حد كبير على التقدم المفاهيمي الذي استمر عقوداً عدة، على الرغم من أن الهيكل الأساسي لعدم المساواة العالمية يتغيّر بطرق أساسية. إن الاعتماد على مؤشرات الفقر التقليدية القائمة على الحقوق للحدّ من الفقر، والنمذجة التقليدية للحراك الاجتماعي، جعل العلماء وصانعي السياسات غير مجهّزين لمواجهة التحديات الحديثة. فحتى الساعة، يمثّل الفقر الجماعي الأزمة الإنسانية الرئيسية في البلدان النامية، ولكن إذا تمّ وضع سياسات فعالة فعندها فقط يمكن تخطي هذه الآفة.
تشير التجربة الدولية إلى أنه في الأزمات الاقتصادية، يمكن أن تتضرر الطبقة الفقيرة والطبقة الوسطى بشكل غير متناسب، ويجب على الحكومة الجديدة التدخل بسرعة لحماية هؤلاء الناس من الآثار السلبية للتعديلات.
لا بدّ للطبقة الحاكمة، والمهيمنة على السياسات والاقتصادات أن تقتنع بأنّ الحدّ من الفقر يصب في مصلحتها والمصلحة الوطنية العليا، كما أن تفاقمها، لا سيما في زمن النقمة الشعبية، سينقلب على من جوّع الشعب وأفقره.