تضمّن تقرير التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان أرقاماً «مهولة» تظهر للمرة الأولى، أبرزها أنّ كلفة الهندسات المالية بلغت 76 مليار دولار بحسب تدقيق «ألفاريز أند مارسال»، لكن مصرف لبنان لم يعترف إلا بـ 56 ملياراً فقط، كما ورد في الصفحة 88 من التقرير، باعتبار أن الباقي تكلفة مستردة أو قابلة للاسترداد. ورغم التوضيح فإنّ شركة التدقيق لم تقتنع بملاحظات مصرف لبنان. وهذا الرقم «الهائل» يشمل كل العمليات التي توصف بالهندسات المالية التي تشمل كلفة فوائد وعوائد، وخصوصاً علاوات سندات وشهادات إيداع، وبعضها استخدم في عمليات دعم رسملة مصرفية وإقالة من العثرات وتغطية خسائر بنوك و»سوابات» وتبادل توظيفات بين الليرة والدولار وبالعكس، استفادت منها المصارف في الدرجة الأولى، وكبار المودعين وكبار المستثمرين الماليين بدرجة أقل. وأتت تلك الكلفة في نهاية الأمر على حساب المودعين، فيما كان مصرف لبنان يخفي تلك الخسائر بميزانيته في بند «موجودات أخرى»، ثم ادعى أخيراً أنّ معظمها حصيلة كلفة تثبيت سعر صرف الليرة وتمويل الدولة. ويذكر أنّ الجداول المرفقة بالتقرير تظهر أفضليات كان يمنحها مصرف لبنان لعدد من البنوك، لكن تبيّن لاحقاً أن حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة وعائلته وعدداً من كبار السياسيين والنافذين لهم مصالح فيها مباشرة أو مداورة.
وفي التقرير أيضاً إشارات واضحة الى العمولات غير الشرعية أو غير القانونية التي حصدتها شركة «فوري»، ويدّعي سلامة أنها مال خاص، فإذا بها مسجلة في دفاتر مصرف لبنان على أنها من المال العام، علماً أنّ المصارف التي دفعت تلك العمولات باعتبار أنها لقاء تسويق أوراق دين عام لم تكن تعرف شركة «فوري»، وبالنسبة اليها هي عمولات يتقاضاها مصرف لبنان، وبالتالي لم يعد باستطاعة القضاء اللبناني تبرئة سلامة وشقيقه وآخرين في هذه القضية التي سبق للقضاء الاوروبي أن أكد الاختلاس فيها.
كذلك كشف التقرير عن عشرات الملايين المسجّلة في خانات «دعم» بأشكال مختلفة، ومنها دراسات واستشارات، استفادت منها جملة أطراف، يعرف من اسمائها الواردة في التقرير أنها من الجهات التي تولت الدفاع عن سلامة طيلة السنوات الماضية، وما تلك الملايين إلا في باب شراء الذمم على حساب المال العام والمودعين.
على صعيد آخر، أكد التقرير أن رياض سلامة كان شبه الآمر الناهي في مصرف لبنان، يعتمد معايير محاسبية خاصة وغريبة لا تتفق والمعايير الدولية، ويدّعي أنّ المجلس المركزي موافق على ممارساته، ليتبين أنّ أعضاء ذلك المجلس كانوا نياماً تقريباً يقبلون كل ما يعرضه سلامة عليهم، وهذا يفترض التدقيق في ما حصلوا عليه من امتيازات لقاء تمرير كل تلك المخالفات الجسيمة. واستغربت شركة التدقيق كيف أنّ مصرف لبنان يفتقد الرقابة الداخلية الفاعلة والشفافية اللتين يفترض تطبيقهما في البنوك المركزية. وأشارت بوضوح الى بيانات مالية لا تعبّر عن الواقع وشبهات تزوير في قيود لإظهار أرباح، فيما كان البنك المركزي يسجّل خسائر بعشرات المليارات. ولفت التقرير الى عدم تعاون رياض سلامة، كما يجب، بحيث رفض تزويد الشركة بالمعلومات والبيانات الكثيرة لاستكمال التدقيق، ومنع الموظفين من التواصل مع شركة «ألفاريز اند مارسال». وفي كثير من الأحيان تذرع بالسرية المصرفية لعدم توفير المعلومات التي طلبتها الشركة، ما يطرح أسئلة جدية عن عدم كفاية التعديل الذي أجراه المجلس النيابي على قانون السرية المصرفية الذي بقي على ما يبدو كفيلاً بإخفاء معلومات في غاية الخطورة.
ويذكر أنّ الأرقام التي أثبتت تدقيقها شركة «ألفاريز أند مارسال» متطابقة وتلك التي وضعها المستشارون وشركة «لازار» عام 2020، إلا أنّ مصرف لبنان وجمعية المصارف ولجنة المال والموازنة رفضتها وأسقطت خطة الاصلاح في تلك السنة، ومعها التفاوض مع صندوق النقد الدولي، ما أدّى الى تفاقم الأزمة على نحو خطير جداً، والى انفلات سعر الصرف من عقاله على نحو تبخّر معه ما كان تبقى من مدّخرات اللبنانيين. ويذكر أن التدقيق يشمل فقط سنوات 2015-2020 ،علماً أن سلامة استمر في 2021 و2022 و2023 بممارسات تتعارض بشدة وقانون النقد والتسليف وتجافي المعايير المحاسبية الدولية، فضلاً عن قبوله إهدار المليارات على دعم السلع ومنصة صيرفة!
مواضيع ذات صلة