مرّ حوالى شهر ونيف على ولادة الحكومة، وحوالى 24 يوماً على نيلها ثقة مُريحة (111 صوتاً). ومع أنّ الوقت لم يحن بعد لبدء المحاسبة الفعلية، والحكم على النجاح أو الفشل، إلا أنّ بعض المؤشرات والمواقف لا تُطمئن، لأنّها تعكس إمّا استخفافاً بخطورة الوضع، أو استكباراً في غير محله، أو تآمراً متعمداً للوصول الى الانهيار.
وبصرف النظر عن الغايات المرئية وغير المرئية، يمكن إيراد بعض المواقف والحقائق التي لا تبشّر بالخير، ومن أهمها:
اولاً- الوفود الأجنبية التي زارت لبنان بكثافة في الفترة الأخيرة، عادت كلها بانطباعات غير مشجعة بالنسبة الى جدّية المباشرة في الاصلاحات المطلوبة لتسهيل البدء في تنفيذ مشاريع واردة في «سيدر».
وتكوّنت لدى بعض الزوار قناعة بأن الوضع يراوح مكانه، لأنهم سمعوا الكلام نفسه الذي سمعوه قبل انعقاد «سيدر» وخلاله وبعده. وكأن شيئاً لم يتغيّر أو يحرّك السلطة.
ثانياً – يعمد البعض الى إجراءات توحي بالتقشّف لكنها أشبه بإفراغ البحر بواسطة كشتبان، مثل منع سفر الموظفين على حساب الخزينة.
والأفضل هنا، وبدلاً من الاعلان عن قرار مماثل في الاعلام، يُستدلّ منه انّ المقصود الدعاية الاعلامية، ان يعمد كل الوزراء الى وقف سفرهم على حساب الخزينة. ومن المؤكّد ان المديرين والموظفين لن يجرؤا بعد ذلك على طلب إذن الوزير للسفر على نفقة الدولة.
ثالثاً – يعمد آخرون الى سياسة التضليل من خلال التغطية على لبّ بعض الأزمات الاساسية، كأن يُقال إنّ السبب الاساسي وشبه الوحيد لأزمة الكهرباء هو ان الدولة تدعم التعرفة لمساعدة الناس غير القادرين على دفع الفواتير.
رابعاً – عندما تنجرف الحكومة من جديد مع الافكار الشعبوية، وتعمد بعد الذي حصل في ملف «السلسلة»، التي شكّلت كارثة مالية اضافية في زمن دقيق، الى التجاوب مع مطالب اضافية لزيادة الانفاق، وهذه المطالب ستزيد وتتشعّب اذا تمّت تلبية القسم الاول منها.
فهذا يؤكّد انّ هناك من لا يزال غائباً عن الوعي ولا يُدرك ما يجري فعلًا في الوضع المالي والاقتصادي. وهنا لا بدّ من القول، إنّ وزير الخارجية جبران باسيل أصاب عندما حذّر من انّ البلد سينهار تحت شعار منح الحقوق المكتسبة.
خامساً – عندما يحوّل أطراف سياسيون الموضوع الاصلاحي الى أزمة سياسية وطائفية ومذهبية، وبصرف النظر عمّا اذا كانت النيات حسنة، أم وراء الأكمة ما وراءها، فانّ النتيجة ستكون واحدة، وستؤدي الى صرف النظر عن الاصلاح، والغرق في صراعات نعرف كيف تبدأ ولا نعرف كيف تنتهي.
سادساً – من يريد تلبية التزاماته في «سيدر»، خصوصاً بالنسبة الى خفض العجز تدريجياً في الموازنة، لا يؤخّر ولادة الموازنة خمسة اشهر، ويواصل الانفاق وفق القاعدة الاثني عشرية، ويحاول أن يوهم العالم بأنه جدّي، في تغيير مشهد العجز المتراكم.
سابعاً – لا تزال مقاربة مسألة التعيينات، بما فيها الهيئات الناظمة التي تعتبر أحد الشروط لمشاركة القطاع الخاص في تمويل مشاريع البنى التحتية وفق ما نصّ عليه «سيدر»، تتمّ وفق الاسلوب التقليدي في تقاسّم الحصص.
وهذا يعني استمرار الخلافات والتجاذبات على القسمة وتأخير الانجازات، بالاضافة الى انّ الاختيار لن يتم وفق معيار الاكفأ، وسيصل الى المواقع الأزلام والاكثر تزلفاً.
ثامناً – انّ الفترة الزمنية التي تفصل بين بدء الخروج من النفق، وبين الوصول الى الهاوية ليست مفتوحة، بل قصيرة ومحدودة جداً، وهي تتعلق بأرقام يعرفها كل من يراقب الوضع المالي.
وهؤلاء الذين يدركون دقة الموقف، على دراية ماذا يجري في داخل المؤسسات، وكم هي معاناة المصارف كبيرة للحفاظ على العملات الصعبة، وكم هو حجم المجهود الاستثنائي الذي يبذله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للحفاظ على قيمة النقد الوطني، فيما كلفة تثبيت هذا الوضع تزداد يوماً بعد يوم، وسيصل الوقت الذي يصبح معه الاقتصاد بكل تفرعاته عاجزاً عن دفع هذه الكلفة.
تاسعاً – ان الاقتراحات التي يتم تقديمها لخفض العجز خجولة ولا يمكن ان تحل بدلاً من الاجراءات الجذرية المطلوبة. كأن يُقال مثلاً بضروة وقف تجديد اثاث المقرّات الرسمية، او خفض عدد السيارات التي تستخدمها الادارات الرسمية… كل الاجراءات التي تؤدي الى خفض الانفاق مطلوبة، لكنها ينبغي أن تكون ثانوية، وتأتي لتُكمّل الاجراءات الاساسية التي يُفترض أن تصنع الفرق.
وهنا لا بدّ من الاضاءة على ملاحظة تتعلق بالورقة التي أعدّها حزب «القوات اللبنانية»، والتي قد تشكّل مدخلاً صالحاً لمواجهة الأزمة. ينبغي لهذه الورقة أن تُناقش في الحكومة ومع بقية الاطراف، وأن تجري مقارنتها بأوراق أعدّتها أحزاب وأطراف أخرى، ومن دون خلفيات سياسية، والاتفاق على البنود التي تحظى باجماع، بعد تعديلها في حال وجود اقتراحات اضافية، أو ملاحظات ما. إذ ترسم هذه الورقة خارطة طريق منطقية للخروج من الأزمة، من خلال خفض الانفاق غير المجدي، وغير القانوني، ورفع الايرادات من دون ضرب الطبقتين الفقيرة والمتوسطة.
في النتيجة، الخروج من النفق يفترض الاعتراف بأنّ الوضع استثنائي ويحتاج اجراءات استثنائية للمعالجة، ولا يمكن الاكتفاء باجراءات استعراضية لزكزكة مشاعر الرأي العام وايهامه بجدية الاصلاح.
وما يوصف بأنه خطوات موجعة لا بد منها، ينبغي ان تكون موجعة لمن سرق ونهب المال العام، ولمن يستمر في هذا النهج، وليس من خلال التخطيط لسحب المزيد من المال الحلال من جيوب الفقراء الذين تعرّضوا للسرقة، ومطلوب منهم اليوم أن يدفعوا بدلاً من السارق ما سرقه ويتنعّم به.