عند الحديث عن الأموال التي يُدخلها الفلسطينيون إلى لبنان، أو تدخل بسببهم، يتنازع رأيان لا يخلوان من المبالغة، الأول يتحدث عن مليارات عدة، ويصل به الأمر أن يُرجع أحد أسباب الأزمة الاقتصادية في لبنان إلى سحب بعض الفلسطينيين أموالهم من البنوك عام 2019 احتجاجاً على قرار وزير العمل، الذي يفرض على العمال الفلسطينيين الحصول على إجازة عمل. أما الرأي الثاني فيرى أن الفلسطينيين يعيشون بمعازل سكنية، ولو امتلكوا الأموال لخرجوا منها، أو ما كانت على هذه الدرجة من البؤس. ما بين هذين الرأيين تحاول “المدن” تقصي الأرقام الحقيقية لتلك المبالغ التي يُدخلها الفلسطينيون إلى لبنان، ومصادرها.
سردية الماضي
تستند الأرقام المبالغ فيها إلى ماضي الثورة الفلسطينية وتدفقاتها المالية إلى لبنان قبل عام 1982، وإلى حجم وقوة الحضور الاقتصادي الفلسطيني وقتها، والمؤسسات الكبيرة التي كان يملكها الفلسطينيون في لبنان. وبالفعل، الأرقام المالية كبيرة حينها، فالدول النفطية وحدها كانت تضخ 250 مليون دولار سنوياً في صندوق منظمة التحرير (عدا صندوق المنظمة الخاص بالضفة الغربية) منذ عام 1978. طبعاً المبالغ المدفوعة لسوريا والأردن أكثر من ذلك بكثير وفق قرارات تلك السنة (1.58 مليار دولار للبلد الأول و1.25 مليار للثاني).
لكن منظمة التحرير كان لديها أيضاً مصادر مالية أخرى من دول وأثرياء ومغتربين فلسطينيين، تدخل في أبواب مصروفات عديدة من بينها حوالى 40000 مسجل ما بين مقاتل وميليشيا، إضافة إلى تعويضات كبيرة للمتضررين اللبنانيين من القصف الإسرائيلي، وهو ما أشعر قطاعاً لبنانياً واسعاً بثراء المنظمة، واستمر هذا الشعور إلى ما بعد خروج منظمة التحرير، بل التوهم أن تدهور العملة كان بسبب هذا الخروج، متجاهلين أن ذلك جاء بعد فشل المصالحة الأهلية، وعودة الاقتتال الداخلي.
أما المؤسسات التي امتلكها الفلسطينيون فأخذت بالتقلص المتسارع نتيجة الهجرة الفلسطينية المدنية الواسعة بدءاً من عام 1983، واستهداف المصالح الاقتصادية الفلسطينية، وحتى قطاع العمل الفلسطيني بجملة من القرارات. ويُلاحظ أن بعض الفلسطينيين ما زالوا يعتقدون بقوة المال الفلسطيني إما كنوع من نوستالجيا أو كحالة دفاعية بوجه ما يعتبرونه إهانة أو تهميشاً لدورهم.
تمويل شهري
يمكن حصر المبالغ المالية التي يُدخلها الفلسطينيون بستة مصادر: منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الفلسطينية، وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، التحويلات الفردية، المؤسسات الفلسطينية الكبرى خارج المخيمات، مؤسسات صغيرة ومتوسطة تتلقى دعماً من مصادر خارج لبنان، وتعمل بالمخيمات والتجمعات الفلسطينية، السياح الفلسطينيون.
في تصريح نادر للصحافة، قال أمين سر حركة “فتح” وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان فتحي أبو العردات لمجلة الدراسات الفلسطينية (شباط 2022) إن المنظمة ترسل إلى لبنان شهرياً مبالغ تصل إلى “عشرة ملايين دولار”، وتُصرف على “قوات الأمن الوطني الفلسطيني، والعاملين في الأطر السياسية والإعلامية والتنظيمية والنقابية واللجان الشعبية في فصائل منظمة التحرير، ومؤسسة رعاية شؤون أسر الشهداء، ومكتب شؤون حركة فتح، والضمان الصحي، والهلال الأحمر الفلسطيني، والمتقاعدين العسكريين، والطلاب، وعدد من العاملين في المؤسسات التابعة لمنظمة التحرير، مثل الروضات والمتعاقدين المدنيين الذين يعملون في المقرات والمراكز والمؤسسات التابعة للمنظمة”.
اللافت أن أبو العردات لم يذكر السفارة الفلسطينية ضمن بنود المصاريف، فهل كان ذلك سهواً، أم أن ميزانية السفارة منفصلة، لأنه إذا كانت بالفعل كذلك فإنه ربما يجب إضافة عدة ملايين من الدولارات سنوياً لميزانية المنظمة. كذلك بدا من حديثه استثناء بقية فصائل منظمة التحرير من المبلغ المذكور في التصريح.
أرقام تقريبية
وفي كل الأحوال يبدو الرقم الذي يطرحه أبو العردات منطقياً ولا يدعو للشك. وبقليل من التفصيل، فإن جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني التي تملك خمس مستشفيات وتسع عيادات، يعمل بها حوالى 1000 موظف، ولو افترضنا أن كل موظف يتلقى راتباً بحدود 400 دولار، فإن الرواتب لوحدها تستهلك ما يقارب نصف مليون دولار شهرياً، ويمكن بسهولة إضافة رقم مماثل للمصاريف التشغيلية، ليصبح الرقم الكلي مليون دولار. أما أسر الشهداء فهم حوالى 5000 أسرة، تتلقى كل واحدة منها 500 دولار شهرياً، أي بمصاريف شهرية كلية تبلغ 2.5 مليون دولار شهرياً. الضمان الصحي تبلغ مصاريفه الشهرية، وفق مصادر خاصة، حوالى 500 ألف دولار.
ورغم رفض بقية فصائل منظمة التحرير وقوى التحالف الإعلان عن ميزانيتها “لأسباب أمنية، وخشية من الملاحقات الدولية لمؤسساتها الاجتماعية”، كما عبّر أكثر من مسؤول فصائلي، إلاّ أنه يمكن محاولة الوصول إلى أرقام تقريبية، إن من خلال عدد العناصر والرواتب، أو من خلال نشاط بعض الجمعيات القريبة من تلك الفصائل، ليبدو رقم ثلاثة ملايين دولار شهرياً كمصاريف شهرية لبقية الفصائل الفلسطينية رقماً معقولاً.
وهكذا يمكن القول إن قيمة ما تدخله الفصائل الفلسطينية مجتمعة إلى لبنان يقارب 13 مليون دولار شهرياً، أي 156 مليون دولار في السنة. ويُلاحظ أن جزءاً من هذه الأموال يصل ليد لبنانيين مباشرة، إن كان من خلال مؤسسة رعاية أسر الشهداء والجرحى، حيث تشمل برعايتها الكثير من الأسر اللبنانية، أو من خلال التوظيف خصوصاً في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، أو من خلال التواجد في بعض الفصائل الفلسطينية. وتجدر الإشارة إلى أن بعض اللبنانيين يستفيد مباشرة من الخدمات الصحية التي تقدمها مؤسسات الهلال الأحمر الفلسطيني.
الأونروا والمغتربون
أما بما يخص “أونروا”، فقد صرحت المتحدثة الإعلامية باسم الوكالة هدى السمرا لـ”المدن” بأن ميزانية البرامج في الوكالة لعام 2022 بلغت 100 مليون دولار، فيما بلغت ميزانية المشاريع بما فيها نداءات الطوارئ 90 مليون دولار، لتصبح الميزانية الكلية 190 مليون دولار. وتجدر الإشارة إلى أن أونروا تستأجر عشرات المباني خارج المخيمات الفلسطينية بمبالغ طائلة، إضافة إلى توظيف عدد من اللبنانيين كموظفين دائمين أو في بعض المشاريع المؤقتة.
المصدر الثالث لإدخال الأموال الفلسطينية إلى لبنان، هو المغتربون الفلسطينيون الذين غادروا هذا البلد، وخصوصاً خلال الحرب الأهلية اللبنانية. وينقل أول ممثل لمنظمة التحرير في لبنان شفيق الحوت عن مصادر في الأمن العام أنه في عام 1983 وحده غادر لبنان ما يزيد عن 70 ألف فلسطيني. وتقول أونروا إنه يوجد في سجلاتها 475 ألف لاجئ، بينما تذهب لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني إلى أنه يوجد في لبنان 174 ألف فلسطيني، ويبدو الأرقام التي أعلنت عنها الجامعة الأميركية هي الأقرب للصحة، حيث يتواجد ما بين 230-250 ألف فلسطيني على الأراضي اللبنانية. وفي النتيجة أن هناك حوالى 250 ألف فلسطيني غادروا واستقروا خارج الأراضي اللبنانية.
لا يمكن الزعم بأن كل فلسطيني ممن غادروا، ما زال متصلاً بمجتمعه الفلسطيني في لبنان، أو يحوّل أموالاً بشكل مستمر، لكن على الأقل يمكن المجازفة بالقول إن نصفهم أو 125 ألفاً من هؤلاء يحوّلون مبلغاً من المال. ويقدر مدير مركز التنمية الإنسانيّة للدفاع عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين سامر مناع في حديثه لـ”المدن” التحويلات الفلسطينية السنوية بحوالى 600 مليون دولار، ويعتبرها “المساهم الأكبر في دعم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين في لبنان”. لكن حتى لو جرى اعتبار أن كل لاجئ من هؤلاء (125 ألفاً) يحوّل شهرياً 250$، فإن الرقم الإجمالي الشهري للتحويلات هو 31.250000 مليون دولار، أو 375 مليون دولار سنوياً.
سياح وجمعيات
المصدر الرابع متصل بالسابق، وهم الفلسطينيون الذين استقروا خارج لبنان، لكنهم يعودون إليه سياحاً كل عام، وأحياناً أكثر من مرة في العام، إما لزيارة أقاربهم، والاطمئنان على أحوالهم، أو استجماماً، أو ضمن وفود أجنبية لإطلاعها على أوضاع الفلسطينيين في المخيمات الفلسطينية، أو متابعة مشاريع قاموا بها. ومعظم هؤلاء يحملون جنسيات أجنبية، ويمكن تقدير أعدادهم بحوالى 60 ألفاً، ويصرف كل واحد منهم خلال رحلته ما لا يقل عن 1000 دولار. فيصل عدد ما يصرفونه، أو يتجاوز، 60 مليون دولار سنوياً.
المصدر الخامس هو المؤسسات العاملة في المخيمات والتجمعات الفلسطينية، والتي لا تنشر عادة أرقام التبرعات التي تتلقاها، ومن الصعب جداً معرفة ميزانيتها العامة، لكن يمكن اتخاذ مخيم متوسط الحجم كمخيم برج البراجنة كمثال، والقياس عليه. وإذا استثنينا المؤسسات التابعة مباشرة للفصائل الفلسطينية، لأنها اعتُبرت ضمن المصدر الأول، فإن المخيم يضم 14 جمعية، إضافة إلى ست روابط اجتماعية، وعدد من الروضات والمراكز التعليمية.
بالتقديرات والاستقصاء تبين أن هناك مؤسستين كبيرتين تبلغ قيمة مصروفاتها الشهرية (150 ألف دولار لكل منهما) وأربع مؤسسات (100 الف دولار لكل منهم)، ومؤسستين (50 ألف دولار لكل واحدة منهما)، وإذا اعتبرنا أن مصروفات بقية المؤسسات والروابط والمؤسسات التعليمية هو 200 ألف دولار شهرياً، فإن الرقم الإجمالي للمصاريف الشهرية للمؤسسات في مخيم برج البراجنة يقارب مليون دولار، أي حوالي 12 مليون دولار شهرياً. ويُذكر أن عدد المؤسسات الناشطة في المخيمات الفلسطينية يقترب من 60 مؤسسة وجمعية. هناك مخيمات أصغر من مخيم برج البراجنة، لكن مخيماً كمخيم عين الحلوة، الأرقام أكبر من ذلك. وإذا استثنيا التجمعات الفلسطينية الصغيرة فإن هناك 12 مخيماً فلسطينياً في لبنان، أي يمكن الحديث عن أن قيمة ما تنفقه المؤسسات في المخيمات سنوياً يقارب 144 مليون دولار.
الانتفاع اللبناني
المصدر السادس ويشمل المؤسسات الكبرى التي ليس لها أفرع في المخيمات، لكنها تقوم بخدمات كبيرة في الوسط الفلسطيني، سواء بالبنية التحتية، أو التعليمية والثقافية، مثل مؤسسة التعاون (ميزانيتها السنوية خمسة ملايين دولار) ومؤسسات دولية أخرى، إضافة إلى صناديق دعم الطالب الفلسطيني التي نشطت أو أعادت تنشيط عملها خلال السنوات الماضية، مثل صندوق الطلاب الفلسطينيين وصندوق محمود عباس، كذلك المراكز البحثية مثل مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومؤسسة الزيتونة، وعند الحديث عن كل هذه الجمعيات والمؤسسات يمكن أن يكون رقم 40 مليون دولار قريباً من الصواب.
وكذا، فإن مصادر الأموال التي يدخلها الفلسطينيون إلى لبنان، أو تدخل بسببهم، هي: الفصائل الفلسطينية: 156 مليون دولار، أونروا: 190 مليون دولار، التحويلات المالية: 375 مليون دولار، السياح الفلسطينيون: 60 مليون دولار، المؤسسات داخل المخيمات: 144 مليون دولار، المؤسسات الكبرى خارج المخيمات: 40 مليون دولار. ليصبح مجموع تلك الأموال سنوياً: 965 مليون دولار.
مع ضرورة الإشارة إلى أن جزءاً كبيراً من هذه الأموال لا تصل لجيوب الفلسطينيين مباشرة، ففي حالة السياحة الفلسطينية تُصرف المبالغ كلها تقريباً في المرافق السياحية ووسائلها، والدعم الجامعي يذهب إلى الجامعات مباشرة، حتى ضمن مشاريع أونروا والبنى التحتية يذهب جزء كبير من الأموال إلى متعهدين ووسطاء لبنانيين، هذا إضافة إلى ما فصلنا أعلاه حول بعض أبواب الصرف.
وميزة المال الفلسطيني أنه يذهب إلى الاستهلاك بمجمله تقريباً، حتى إنه في عام 2013 قدّرت منظمة العمل الدولية نسبة استهلاك اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بعشرة بالمائة من إجمالي الاستهلاك الخاص. وقد تعود هذه النسبة إلى عدة أسباب أولها طبيعة اللجوء، وقوانين العمل التي لا تسمح بإنشاء عمل خاص، ومنع الملكية، كلها أمور تدفع إلى مزيد من الاستهلاك.
القوة الاقتصادية الكامنة
إذا كان آدم سميث لاحظ قبل قرنين أن الإنسان الذي لا يستطيع أن يحصل على ملكية، لا همّ له سوى أن يأكل أكثر ويعمل أقل ما يمكن، فإنه يمكن ملاحظة نسبة الاستهلاك العالية في المأكل والملبس عند الحضور إلى أي تجمع فلسطيني. ويضاعف الاستهلاك النسب العالية بالأمراض المزمنة (ثلث الفلسطينيين)، الصيانة الدائمة التي تحتاجها البيوت نتيجة المياه المالحة والرطوبة، وقد قدرت أونروا عدد البيوت الآيلة للسقوط في المخيمات الفلسطينية بـ5500 بيت، ما يعني أن البيوت التي بحاجة لصيانة هي أضعاف هذا الرقم. يُضاف إلى ذلك أن اللاجئ الفلسطيني، ومنذ سنوات اللجوء المبكرة، يحاول التماثل مع محيطه بدرجة الاستهلاك ونوعية الترفيه.
في الخلاصة، إن ما يعيق الوصول إلى أرقام دقيقة جملة من الأسباب، منها أن معظم المؤسسات والفصائل ترفض الإفصاح العلني عن ميزانياتها، وأن الفلسطينيين الذين يحوّلون أموالاً أو يأتون سياحاً يحملون جنسيات متنوعة، لكن حاول هذا المقال الوصول إلى أرقام أقرب إلى الواقع، متحاشياً قدر الإمكان الوقوع في مبالغات، لكن الحصيلة تبقى أن مردود المال الفلسطيني سيكون مضاعفاً لو جرى السماح بأن يكون الفلسطينيون جزءاً من سوق العمل اللبناني، والحدّ من القوانين التي تزيد من عزلتهم، ومن الكلفة الاجتماعية والاقتصادية لهذه العزلة.