نظرياً، ما زال الدعم قائماً على المحروقات والدواء والطحين. إنما فعلياً، لم يعد للدعم “المرشّد” أي إيجابية بالنسبة للسواد الأعظم من المقيمين. ومع هذا يتم الإبقاء عليه في هذا الشكل المشوه، لاستمرار استنزاف أموال المودعين لصالح شلة من المحتكرين والمستفيدين، وخلق أسعار صرف جديدة، وتأخيره تأمين الحلول البديلة.
إذا طبقنا أسعار الدعم المعتمدة اليوم على شهر كانون الثاني من العام الحالي عندما كان سعر الصرف في السوق الموازية 8300 ليرة، لوجدنا أن الدعم على المحروقات قد رُفع بنسبة 103 في المئة، وعلى الدواء بنسبة 165 في المئة، وعلى الخبز بنسبة أيضاً تفوق 100 في المئة، و50 في المئة على الأدوية المنتجة محلياً. فأسعار الدعم المعتمدة اليوم هي 8000 ليرة للمحروقات و 4800 ليرة للأدوية المصنعة محلياً، و13650 ليرة لأدوية “OTC” و”acute disease” المستوردة، و8000 ليرة للمحروقات. ما يعني أنه لو رفع الدعم كلياً مع مطلع العام الحالي لكانت نتائجه أخف وطأة على المواطنين مما هي عليه اليوم مع وجوده مرشداً. في المقابل، بلغت كلفة الدعم في النصف الاول من العام الحالي بحسب أرقام مصرف لبنان الرسمية 2328 مليون دولار، توزعت بقمية 1.5 مليار دولار على الدواء و828 مليوناً على المحروقات. وبقينا من أول العام من دون دواء ولا محروقات.
في الوقت الذي رفع فيه الدعم عن المحروقات بنسبة 50 في المئة في ظل سعر صرف يفوق 18 ألف ليرة، بقيت الأجور والرواتب في القطاعين العام والخاص ثابتة، ولا مساعدات مباشرة أو إعانات. الأمر الذي سيزيد نسب الفقر بشكل هائل في فترة قياسية، وتعجز الأغلبية من الوصول إلى الغذاء الكافي والحصول على أبسط الحاجات الأساسية من ماء وكهرباء واستشفاء. وبحسب نقيب أصحاب الأفران في الشمال طارق المير فان “ربطة الخبز تباع خارج الأفران في السوق السوداء بقيمة 10000 ليرة للربطة الواحدة. في حين أن التسعيرة الرسمية هي 4000 ليرة. وفي حال تأمن للأفران المازوت على السعر الرسمي أي بين 105 و116 ألف ليرة، فان الربطة ستزيد بين 200 و250 ليرة. ليصبح ثمنها في باب الفرن 4250 ليرة. إنما مع التوقع بعدم توفر المازوت حتى على سعر 8000 ليرة، فان سعر الخبز سيبقى في الكثير من المناطق يباع بأضعاف سعره الحقيقي. وسيشكل 100 في المئة من الحد الأدنى للاجور إذا افترضنا أن الاسرة المؤلفة من 5 أشخاص تستهلك ربطتي خبز يومياً زنة الواحدة منها 860 غراماً.
الأسعار الملتهبة تطال قطاع النقل البري بشكل أساسي، حيث تتراوح تعرفة “السرفيس” داخل العاصمة بيروت بين 20 و25 ألف ليرة، بحسب رئيس “النقابة العامة لسائقي السيارات العمومية” في لبنان مروان فياض. والسبب اضطرار السائقين للإنتظار لساعات طويلة على المحطات، وشراء صفيحة البنزين في احيان كثيرة بأضعاف سعرها الرسمي من السوق السوداء، وسيطرة الفوضى بشكل مخيف على القطاع. فيما ستبلغ أجرة النقل من طرابلس إلى بيروت حوالى 30 ألف ليرة في الباصات. ما يعني أنه حتى مع رفع بدل النقل في القطاع العام من 8 آلاف إلى 24 ألف ليرة، ستبقى أقل بكثير من الكلفة الحقيقية التي سيتحملها الموظف أو المواطن للإنتقال من وإلى عمله. واذا افترضنا حاجة الفرد إلى ركوب سيارة الأجرة للذهاب والإياب من العمل، فان الكلفة ستتراوح على سعر 129 ألف ليرة لصفيحة البنزين بين 32 و40 ألف ليرة. أي ما يقارب 1.2 مليون ليرة، تشكل 60 في المئة من المعدل الوسطي لرواتب موظفي القطاع العام البالغ 2 مليون ليرة.
عند هذا السعر من المازوت “سيبلغ سعر الكيلواط ساعة لاشتراك المولد نحو 3 آلاف ليرة”، بحسب ممثل أصحاب المولدات الخاصة عبدو سعادة. أي أن الأسرة التي تستهلك في ظل الانقطاع شبه التام للكهرباء بين 200 و250 كيلواط أقله في الشهر، ستدفع فاتورة تصل إلى 750 ألف ليرة لبنانية. يجيب المشرف على “مرصد الأزمة” في الجامعة الأميركية وأستاذ العلاقات الدولية د. ناصر ياسين بان “القرار الأخير بتسعير المحروقات على أساس 8000 ليرة سيزيد كلفة تأمين الطعام بمعدل وجبتي غذاء يومياً بنسبة 25 في المئة. ما يعني أن حاجة الأسرة المؤلفة من 5 أشخاص سترتفع من 3.5 ملايين ليرة شهرياً، إلى حدود 4.3 ملايين ليرة. وإذا أضفنا إلى هذا المبلغ 2 مليون ليرة للنقل وتأمين الكهرباء، فان الحد الأدنى للدخل يجب أن يكون 6.3 ملايين ليرة. هذا من دون احتساب خدمات التعليم والإستشفاء وبقية المتطلبات من شراء الملبوسات والأحذية والترفيه وغيرها الكثير من الحاجات الأساسية.
الارتفاع الهائل في الأسعار، بالمقارنة مع تدني الأجور والرواتب يترك الأسر والأفراد أمام 3 طرق لتلبية متطلباتهم الأساسية حسب ياسين وهي: تحويلات المغتربين. المساعدات المادية والعينية من الهيئات المحلية والمنظمات والأحزاب. التكيف، والتقنين في الاستهلاك والإنتقال إلى شراء الأصناف الأرخص ثمناً”. كما بدأ يسجل بحسب ياسين دخول الأولاد إلى سوق العمل للمساعدة على إعالة الأسرة. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة ما زالت محدودة في العائلات اللبنانية بالمقارنة مع الأسر النازحة إلا انها بدأت تلاحظ خصوصاً في المناطق الفقيرة.