مرّة جديدة، قررت جمعيّة المصارف لعب دور “جمعيّة الأشرار” بالمعنى القانوني والحرفي للكلمة، أي بمعنى التواطؤ بشكل جماعي لتسهيل التمرّد على القانون والخروج عنه. فطوال الأسابيع الماضية، وبحيل وألاعيب قانونيّة متقنة، تآمرت الجمعيّة مع هيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان، للتغاضي عن تزويد النيابة العامّة التمييزيّة بمعلومات كافية عن التحويلات التي جرت خلال الأعوام 2019 و2020 و2021، والتي تم تنفيذها بناءً على طلب الموظفين العموميين أو المسؤولين في إدارات الدولة. النيابة العامّة التمييزيّة طلبت هذه المعلومات منذ بداية الصيف، وظلّت الجمعيّة والهيئة تتلاعبان بالمراسلات والطلبات طوال الأشهر الأربعة الماضية، حتّى تم مؤخراً إسقاط الطلب بشكل متقن.
دأت حكاية المؤامرة الجديدة في أواخر شهر حزيران الماضي، حين راسلت النيابة العامّة التمييزيّة هيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان، بهدف رفع السريّة المصرفيّة والاستقصاء عن التحويلات التي جرت من 2019 من قبل أشخاص يعملون في القطاع العام. مع الإشارة إلى أن هيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان تملك قانوناً صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة أمام القضاء اللبناني، ويرأسها حاكم مصرف لبنان نفسه. على أي حال، لم يتضح حتّى اللحظة هدف النيابة العامّة التمييزيّة من هذا الطلب، إذ ثمّة من يربطه بالتحقيقات التي تقوم بها النيابة العامّة في قضية حاكم مصرف لبنان وشقيقه رجا سلامة، بينما يشير البعض الآخر إلى اتصال الطلب بتصريح الموظفين العمومين عن ثرواتهم وذممهم الماليّة.
أهم ما في الموضوع، هو أن النيابة العامة التمييزيّة حرصت على ربط طلبها الموجّه إلى هيئة التحقيق الخاصّة بقانون الإثراء غير المشروع، من دون أن تشير من قريب أو من بعيد لقانون مكافحة تبييض الأموال. أما هدف هذه الخطوة، فكان حشر هيئة التحقيق الخاصّة وإلزامها بتقديم المعلومات، من دون إعطائها صلاحيّة الاجتهاد أو التذاكي للتملّص من طلب النيابة العامة التمييزيّة.
ما إن ورد الطلب إلى هيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان، حتّى بدأت الألاعيب الهادفة إلى تمييع الطلب القضائي وإسقاطه، أو على الأقل فتح الباب لجمعيّة المصارف لتقوم بهذا الأمر بنفسها. الخطوة الأولى كانت عدم التفاعل مع طلب النيابة العامّة التمييزيّة لأكثر من 70 يوماً، وعدم اتخاذ أي قرار بخصوصه، بل وحتّى عدم مراسلة المصارف لإبلاغها بورود طلب كهذا من جهة القضاء اللبناني. هنا، كان رمي الملف في الأدراج مجرّد إشارة إلى عدم جديّة هيئة التحقيق الخاصّة في التعامل مع الطلب القضائي، وعدم رغبتها بتنفيذه أساساً.
في مطلع شهر أيلول الماضي، قررت هيئة التحقيق الخاصّة أخيراً تحريك الملف، ربما تحت وطأة إلحاح النيابة العامّة التمييزيّة على اتخاذ إجراء ما بخصوص الطلب. لكن هيئة التحقيق الخاصّة تحايلت مرّة جديدة من خلال إحالة طلب النيابة العامّة التمييزيّة كما هو للمصارف، لكن مع ربطه بقانون مكافحة تبييض الأموال، وليس قانون الإثراء غير المشروع. وربط الطلب بقانون مكافحة تبييض الأموال لم يكن خطوة عبثيّة، بل كان خطّة متقنة أرادت منها هيئة التحقيق الخاصّة تمكين المصارف من الإطاحة بطلب القضاء ورفضه، وهذا بالضبط ما جرى.
ما إن وردت إحالة هيئة التحقيق الخاصّة إلى المصارف اللبنانيّة، حتّى قررت جمعيّة المصارف تنسيق أجوبة المصارف بشكل منظّم، بالاستفادة من اللغم الذي وضعته هيئة التحقيق الخاصّة عن قصد للإطاحة بطلب القضاء. وعلى هذا النحو، حضّرت جميع المصارف أجوبتها التي رفضت إعطاء المعلومات التي طلبها القضاء اللبناني، بالاستناد إلى صيغة الإحالة التي حضّرتها هيئة التحقيق الخاصّة، لا الطلب القضائي نفسه.
المسألة الملفتة للنظر في التحايل الذي جرى طوال الأسابيع الماضية، تكمن في أن المصارف –وهي شركات من القطاع الخاص- نصّبت نفسها في موقع القاضي الذي يملك صلاحيّة تقييم طلبات رفع السريّة المصرفيّة التي ترد إليه، ووضعت نفسها في موقع الطرف الذي يوافق أو لا يوافق على إعطاء هذه المعلومات. وبدل أن يملك القضاء القدرة على الوصول إلى المعلومات في قضايا الإثراء غير المشروع المطروحة أمامه، والتي يملك وحده صلاحيّة البت بها، جرى تمييع طلباته بشكل ماكر، وصارت المصارف وحدها من يقرر جديّتها تحت حجّة ارتباط الطلب بملف “تبييض الأموال”.
لم تكن هذه المرّة الأولى التي تتملّص فيها جمعيّة المصارف وهيئة التحقيق الخاصّة من طلبات القضاء، لكشف هوية المستفيدين من التحويلات إلى الخارج، التي جرت بعد حصول الانهيار المالي. في أواخر العام 2019، طلبت النيابة العامة التمييزيّة من هيئة التحقيق الخاصّة تزويدها بأسماء الأشخاص المعرّضين سياسياً، الذي أجروا تحويلات من النظام المصرفي اللبناني إلى الخارج بعد 17 تشرين الأوّل 2019، لكن الهيئة قررت تجاهل هذا الطلب كلياً وعدم الرد عليه.