كرس القانون اللبناني منذ العام 1967، فكرة استئثار أقلية من التجار على القطاعات الاقتصادية كافة، بما يخالف التشريعات الدولية والمعاهدات التي وقع عليها لبنان. وحسب إحصاء “الدولية للمعلومات”، فإن ما لا يزيد عن 300 شخص فقط في لبنان يحتكرون استيراد وتوزيع أكثر 2335 سلعة، حسبما تظهر عقود الوكالات الحصرية المسجلة لدى وزارة الاقتصاد اللبناني بين عامي 2005 و2018 (وهي أخر أرقام صادرة عن وزارة الاقتصاد والتجارة).
وذكرت وسائل إعلامية عدة أن عدد الوكالات الحصرية في لبنان، المسجلة رسمياً، قد يصل إلى ما يقارب 3330 وكالة، بعضها مسجل بطريقة رسمية، وأخرى تعمل خارج إطار القانون، وتجني أرباحاً طائلة. بمعنى أخر، فإن فئة قليلة من الناس تمكنت لسنوات من جمع ثروات كبيرة، على حساب المواطن. وهذا الواقع دفع العديد من المناهضين للاحتكارات، ومن ضمنهم جمعية حماية المستهلك، لرفع الصوت عالياً. إلا أن ظهور القانون الجديد بضياغته الحالية، أقل ما يمكن القول عنه أنه مخيب للأمال، ويحمل الكثير من المغالطات.
فالقانون الجديد سمح، على عكس ما هو معترف به في كافة دول العالم، لنسبة محددة من الشركات باحتكار حصة في السوق تصل إلى ما يقارب 35 في المئة. وهذه نسبة كافية لإفراغ القانون من محتواه، حسبما يؤكد برو لـ”المدن”. ويقول: “لا يزال القانون يكرس حق الأقلية في السيطرة على الاقتصاد اللبناني، مع السماح للشركات بالسيطرة على حصة 35 في المئة. وهذه نسبة مخالفة لجميع القوانين المعمول بها في العالم، والتي تنص على أن حصة الشركات لا تتعدى 15 في المئة.
وبحسب برو، فإن معظم الشركات حالياً تحتكر أصلاً ما بين 30 و40 في المئة من حجم السوق. وحتى الشركات التي تمتلك حصة تتجاوز 35 في المئة، سوف تقوم بتأسيس شركات صغيرة بأسماء مختلفة، بهدف التحايل على القانون.
وفي خطوة اعتبرها تصحيحية، أكد برو، توجه جمعية حماية المستهلك إلى المحكمة الدستورية للطعن في دستورية القانون، الذي يراه مخالفاً للتشريعات الداخلية والدولية.
قد تكون خطوة المجلس الدستوري هامة جداً لإعادة تعريف ماهية النظام الاقتصادي اللبناني، والتوجهات المستقبلية. وتوافق المحامية جوديث التيني في حديثها لـ “المدن” على أن التوجه إلى المجلس الدستوري قد يكون خطوة مهمة. وتقول “إن إعادة نظر المجلس الدستوري بدستورية القوانين ومدى تطابقها مع الدستور اللبناني، ستكون له نتائج قانونية هامة في إعادة تحديد ماهية النظام الاقتصادي المتبع في لبنان”.
ولا تخفي التيني أن القانون بصياغته الحالية، قد يحمل علامات استفهام عديدة تحتاج إلى بعض التوضيحات، ولعل أبرزها ما يتعلق بنسبة الـ 35 في المئة. وهي تسأل: “هل استند المشروع إلى أسس اقتصادية عند إقراره؟ ولماذا لم يوضع نسبة أقل أو أعلى من ذلك؟”.
ورغم هذه التساؤلات لا تنفي التيني الإشارة إلى أهمية القانون، وترى بأنه خطوة أولى للإصلاح، ولا مبرر لرفضه. لأن على لبنان السير ضمن القواعد التجارية الدولية، فجميع الدول في العالم ألغت قوانين الاحتكارية منذ سنوات.
على الرغم من أن القانون يسمح لهم بالسيطرة على نسبة 35 في المئة، إلا أن ذلك لم يكن أمراً مرحباً به من أصحاب الوكالات. فوجدوا أن القانون يتنافى مع مبدأ المنافسة، ويفتح المجال للتهريب. وتختلف مقاربة أصحاب الوكالات الحصرية عن مقاربة المشرعين. ففي حين وجد العديد من النواب أن القانون الجديد يفتح باب المنافسة، ما ينعكس إيجاباً على حركة الأسواق ويؤدي إلى خفض الأسعار، يرى عميد الصناعيين جاك صراف في حديثه لـ”المدن” أن “القانون بصياغته الحالية لا يدعم الاقتصاد اللبناني، بل يحرم المستهلك من ميزات عديدة، في مقدمها الحصول على ضمان ما بعد البيع، وهي ميزة يتمتع بها المستهلك اللبناني”.
وينبه صراف من أن “خسارة التجار حماية القضاء اللبناني تشرع البلد على عمليات تهريب البضائع. والقانون يكرس عمليات الفساد، ويغرق السوق اللبناني بالبضائع المغشوشة”. بمعنى أخر من شأن القانون أن يساهم في “توسيع السوق السوداء في لبنان. وهو واحد من القرارات الخاطئة التي قد تغير وجه لبنان الحقيقي”.
في لبنان، تتوزع الوكالات الحصرية، على كافة القطاعات والجوانب الاستهلاكية: من المواد الأولية إلى المشتقات النفطية والغاز والمواد البيتروكيميائية، مروراً بالمواد الزراعية ومواد البناء والسيارات والآليات والمعدات، وحتى الملابس. وهذا من شأنه أن يكرس الطابع الاحتكاري للسوق اللبناني. وحسب العديد من الدراسات الاقتصادية، بما في ذلك للبنك الدولي، فإن الريع الناتج عن الاحتكارات في لبنان يصل إلى أكثر من 16 في المئة من الناتج المحلي. وهذه نسبة تتخطى مساهمة القطاع الصناعي بمجمله في الناتج المحلّي.