في توقيت مثير للريبة، ومضمون مخادع، قدّم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي روايته عن تلزيم معامل كهرباء جديدة، متهماً وزير الطاقة وليد فياض بأنه قدّم طلباً لعرض ملف التلزيم على مجلس الوزراء، ثم طلب سحبه لأنه دمية بيد آخرين (الاتهام موجّه هنا إلى رئيس التيار جبران باسيل). رواية صدّقها كثيرون، لكنها ليست سوى نتاج صفة يشتهر بها ميقاتي دوناً عن سائر السياسيين المخادعين، إذ إن العروض المشار إليها ملغومة وتفوح منها روائح فساد سياسي وعمولات
اطلعت «الأخبار» على العروض التي قدّمتها أربع شركات إلى وزارة الطاقة. ما قاله رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بعد الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، بأن هناك أربعة عروض صحيح تماماً. لكن بقية التفاصيل عن الاتهامات الموجّهة إلى وزير الطاقة وليد فياض «مغشوشة»؛ فالعرض الأول من «إنسالدو» الإيطالية مؤلّف من ورقة واحدة ويعبّر عن «اهتمام» الشركة فقط، بلا أي تفاصيل أو شراكات أو عمليات. والعرض الثاني من «ميتسوبيشي» يخلو من أي إشارة إلى التمويل. والعرض الثالث من «جنرال إلكتريك»، بالشراكة مع شركة عراقية مملوكة من أحمد إسماعيل، ليس مطابقاً فنياً وبكلفة تمويل مرتفعة جداً. أما العرض الأخير، وهو الأكثر إثارة للاهتمام كون الرئيس ميقاتي روّج له باهتمام بالغ وتلقّى نسخة منه في خريف 2021 قبل إرسال نسخة محدّثة منها إلى وزارة الطاقة، فأتى من شركة «سيمنز» الألمانية، وتدّعي فيه أنها ستقدّم عرضاً عبر شركة صينية اسمها «CMEC» بلا أي شراكة بينهما، وأن علاقتهما محصورة بأن الشركة الصينية ستكون زبوناً لدى «سيمنز» لشراء المحركات، وأن تركيب الميغاوات الواحد سيكلّف لبنان 800 ألف دولار.
تفاق بالتراضي
في الواقع، القصّة لا تبدأ بالعروض، بل من مقرّرات مجلس الوزراء الذي أقرّ اتفاقاً بالتراضي ثم تراجع عنه. ففي جلسة بتاريخ 6/4/2022، وبحسب المحضر الرقم 26، اتخذ المجلس القرار الرقم 15 من أربعة بنود وحرفيّته الآتي:
– الموافقة على تفويض وزارة الطاقة والمياه الشروع بإجراء مباحثات مع كبار المصنّعين العالميين لوحدات إنتاج الكهرباء لدراسة إمكانية ورغبة هذه الشركات (بمفردها أو عبر تحالف شركات) القيام بتأمين التمويل اللازم وإنشاء معملين في الزهراني ودير عمار وفق صيغة EPC+F+O&M (التصميم والتوريد والإنشاء + التمويل + التشغيل والصيانة) وإنشاء خطوط النقل ومحطات التوزيع الفرعية اللازمة.
– الموافقة على مشروع مذكرة تفاهم والحصول على التفويض اللازم لكي يصار بعد ذلك إلى عرضها على الشركات المهتمة والعمل على توقيعها وفق الأصول من قبل الطرفين، بغية الانتقال من بعدها إلى مرحلة مفاوضات تنافسية مباشرة مع هذه الشركات عبر تشكيل فريق تفاوضي محترف من خبراء في المجال التقني والقانوني والبيئي والاجتماعي والاقتصادي، وباعتماد آلية عملية تؤمن أعلى درجات الشفافية والصدقية ووفق ما يقرّره مجلس الوزراء والقوانين والأنظمة المرعية الإجراء.
– الموافقة على الاستعانة باستشاريين عالميين و/أو محليين في المجال التقني والقانوني والبيئي والاجتماعي والمالي والاقتصادي وعرض الموضوع على مجلس الوزراء.
– الطلب إلى وزير الطاقة والمياه الإسراع في اقتراح أسماء رئيس وأعضاء هيئة تنظيم قطاع الكهرباء وفقاً للقانون 462 ليصار إلى تشكيل الهيئة الناظمة.
اعتراض العلية
أثار هذا القرار احتجاج المدير العام للمناقصات جان العليّة باعتبار الأمر عبارة عن عقد بالتراضي ليس مخالفاً فحسب لقانون المحاسبة العمومية، وإنما لا يمكن السير به في ظل ما تزعم الدولة اللبنانية القيام به أمام المجتمع الدولي لجهة شفافية المناقصات والتلزيمات، وأنه لهذه الغاية أنجز مشروع «الشراء العام» الذي شارك في إعداده البنك الدولي ومؤسسات دولية ومحلية أخرى. بمعنى آخر، لا يمكن السير بمناقصة بالتراضي تشوبها الشبهات من أجل عرض واحد كان قد ورد إلى مكتب ميقاتي من «سيمنز» وشركة صينية، ووردت نسخة أخرى منه إلى مكتب وزير الطاقة أيضاً. هكذا استدعى الأمر تعديلاً في قرار مجلس الوزراء. وفي الجلسة التي عقدت في 14/4/2022، وبحسب المحضر الرقم 27، اتخذ القرار الرقم 30 بتعديل القرار الرقم 15 لتصبح الفقرة الأولى على النحو الآتي: «تمهيداً لإطلاق المناقصة العمومية، الموافقة على تفويض وزارة الطاقة والمياه بالشروع في إجراء مباحثات مع كبار المصنّعين العالميين لوحدات إنتاج الكهرباء… (وباقي الفقرة من دون تغيير)». كما ألغيت الفقرة الثانية الواردة سابقاً في القرار 15 واستبدلت بفقرة أخرى تنصّ على: «تكليف وزارة الطاقة والمياه وضع دفتر شروط خاص لإطلاق المناقصة وعرضه على إدارة المناقصات وفقاً للأصول». ولم تجرَ أيّ تعديلات على الفقرة المتعلقة بالاستعانة بالاستشاريين العالميين، أو بتشكيل الهيئة الناظمة.
عملياً، ما حصل هو أنه جرى تحويل الأمر من «اتفاق بالتراضي» إلى «مباحثات» الهدف منها دراسة السوق تمهيداً لإطلاق «المناقصة». وإطلاق هذه الأخيرة يتطلب التعاقد مع الاستشاري العالمي لإطلاق المناقصة وإعداد دفتر الشروط، وهو ما شرعت الوزارة به مع شركة «كهرباء فرنسا». المفاجأة أتت من الشركة الفرنسية التي طالبت بتسديد فواتير سابقة مستحقّة بقيمة 3.5 ملايين يورو، وتسديد كلفة التعاقد الجديد مسبقاً بقيمة 2.5 مليون يورو، أي ما مجموعه 6 ملايين يورو. وهذا الملف هو الذي عرضه في البداية وزير الطاقة على مجلس الوزراء ثم طلب سحبه بسبب ورود نسخة جديدة من «كهرباء فرنسا» ومواصلة المفاوضات بين الطرفين.
نتائج المباحثات
في هذا الوقت، كانت المحادثات مع «كبار المصنّعين» قد بدأت. تبيّن أن اهتمام «انسالدو» الإيطالية فاتر، إذ لم ترسل سوى ورقة واحدة تبدي فيها اهتمامها بالمناقصة من دون أي تفاصيل أخرى. أما «ميتسوبيشي» فقدّمت تصوّراً يقضي بإنشاء ثلاث وحدات إنتاج، اثنتان منها بقدرة ألف ميغاوات في الزهراني، و500 ميغاوات في دير عمار. المشكلة في هذا التصوّر أنه تقنياً ليس مناسباً بسبب كبر حجم الوحدات وانعدام مرونتها ما يسبب مخاطر تقنية على الشبكة، فضلاً عن أنها وحدات لا تعمل إلا بواسطة الغاز والديزل، ولا تعمل بواسطة الفيول الثقيل. ولم يتضمن عرض «ميتسوبيشي» ما يتعلق بالتمويل.
العرض الآتي من «جنرال الكتريك» كان أيضاً يعمل بواسطة نوعين من الوقود فقط (الغاز والديزل. الأخير أعلى كلفة من الفيول أويل الثقيل)، لكن مشكلته الأساسية تكمن في كلفة التمويل البالغة 16% وتفرض شراء الطاقة الكهربائية المنتجة لمدّة عشرين سنة بسعر 4.83 سنتات، وذلك من دون كلفة الوقود.
هنا يأتي العرض الأهم، أو الذي يهمّ ميقاتي بشكل خاص. فهذا العرض تعتريه مشكلة أساسية، وهي أن «سيمنز» ستكون مجرّد واجهة لمتعاقد وحيد هو الشركة الصينية «CMEC» بكلفة 800 ألف دولار للميغاوات الواحد، أي بسعر تفوح منه رائحة عمولات لأنه يزيد عن الأسعار الرائجة عالمياً بأكثر من 100 ألف دولار بالحدّ الأدنى. تركيب 2000 ميغاوات يعني 200 مليون دولار عمولات، إذ إن كلفة الميغاوات الواحدة، بحسب وكالة الطاقة الأميركية، تقدّر بنحو 670 ألف دولار، علماً بأن مصر ركّبت معامل تعمل بواسطة الغاز والبخار بكلفة 500 ألف دولار للميغاوات الواحد. فضلاً عن أنه إذا كان لبنان يريد التعاقد مع شركات صينية، فبإمكانه البحث عن عروض صينية أخرى بكلفة أدنى بكثير ومن دون مواربة ولا واجهات ولا عمولات. واللافت أنه باستثناء المحرّكات، كل المواد التي ستركّب في المعمل صينية.
رواية مضادّة
رواية ميقاتي تقود نحو عرض «سيمنز» مباشرة الذي تلقى نسخة منه في خريف 2021 وبقي ساكتاً لغاية الجلسة الأخيرة من مجلس الوزراء. فهل يمكن التعامل مع هذه العروض بجديّة؟ ما هو واضح أنه لا يمكن أن تهتمّ أي من الشركات باستثمار ملايين الدولارات في لبنان من دون أن تكون لديها ضمانات لاسترداد هذا الاستثمار. بمعنى أوضح، الاستثمار سيكون بالدولار، ومبيع الكيلوات سيكون بالليرة. وبمعزل عن التسعير، وعن سعر الصرف، هل سيكون هناك ما يكفي من الدولارات لاستعادة الشركة استثمارها على مدى السنوات المقبلة؟ وبالتالي فإن جميع هذه العوامل، من توقيت الطرح، إلى مضمونه، وإلى سياقه الاقتصادي ليس سوى رواية مخادعة فيها الكثير من الخيال.
هنا يمكن تقديم رواية ثانية تطغى فيها الوقائع على العوامل السياسية، وحتى على سائر العوامل. ترجّح هذه الرواية أن هناك اتفاقاً بين الرئيسين نجيب ميقاتي ونبيه برّي على تمهيد الطريق للشركات الفرنسية – الأوروبية مقابل الدعم الفرنسي – الأوروبي السياسي لهما في مواقعهما الحالية. وقد جاء دور ميقاتي متأخراً في القول بأنه ليس السبب في تأخّر التعاقد بالتراضي مع شركة «سيمنز»، بل إن التيار الوطني الحرّ هو من يعرقله. وعلى المقلب الثاني، تشير المعلومات إلى أن اهتمام شركة «توتال» الفرنسية بإنشاء معامل تغويز في الزهراني ليس جديداً، بل أبلغته للمعنيين في لبنان وهي تحوز دعم الرئيس بري في هذا المجال. واللافت أن المناقصة السابقة للتغويز، والتي فازت بها الشركة القطرية، ألغيت بسبب رسالة قطرية تشير إلى أن الظروف تغيّرت وأنها لم تعد مهتمة بهذا الاستثمار، كما أن شركات أوروبية أخرى أبدت في رسائل خطية عدم رغبتها في استثمار كهذا. بمعنى آخر، فتح الطريق أمام «توتال» في الزهراني و«دخولها آمنين». وهذا يتطلّب توجيه الاتهامات نحو طرف ثالث لم ينجز المناقصة أو اتفاق التراضي أو أي مما يتلقّى ضغطاً بشأنه.