عندما يثبت نموذج إقتصادي ما فشله وعجزه عن تصحيح المسار وإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل التي يعاني منها البلد والمجتمع، فلا ضير أبداً من التعلّم بذهن منفتح من تجارب الآخرين. فبالإضافة إلى فشل النظام اللبناني على المستوى السياسي فهو أيضاً فشل في بناء إقتصاد متماسك وقوي يعتمد إستراتيجية واضحة تنسجم مع رؤية البلد ودوره في المنطقة والعالم. كان بإمكان النموذج الإقتصادي اللبناني أن يجمع ما فرقته السياسة وأن يكون الرافعة الوطنية لتطوير البلد وتقديم حياة أفضل ومستقبل واعد لجميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم وآرائهم السياسية.
النموذج الإقتصادي اللبناني أثبت في التطبيق أنه ليس “نموذجاً” فهو لا حر ولا موجّه ولا رأسمالي ولا اشتراكي ولا هو قائم على نظرية إقتصادية واضحة وقابلة للمراجعة والتطوير. الإقتصاد اللبناني قائم على شبكات من المصالح المالية العابرة للطوائف والتي تستعمل السياسة والقضاء ومؤسسات الدولة لخدمة مصالحها. هي أقرب الى نظام “مافيوي إقطاعي” من زمن آخر ويقوم على استغلال الناس وظلمهم حتى الهجرة أو الموت.
فما يحتاجه لبنان بالإضافة إلى الخلاص النهائي من المنظومة الطائفية البغيضة هو تفكير جديد وذهنية جديدة مبنية على أسس واضحة ومتوافق عليها لجعل الإقتصاد الجديد هو الحصان القادر على جرّ عربة لبنان وإخراجها من وحول الماضي ولكن الأهم أن يكون النموذج الإقتصادي قادراً على فتح أبواب المستقبل وحجز مكانة ودور فاعل ومؤثّر للبنان في اقتصاديات حوض المتوسط والعالم العربي.
إقتباس النموذج
لوقف حفلة الهلوسة الفكرية التي تترافق عادةً مع مواسم الدجل والإنتخابات نحتاج إلى خريطة طريق عملية وواضحة لبناء نموذج إقتصادي يشكل رافعة وطنية ويجمع اللبنانيين حول هدف الوصول إلى حياة أفضل للجميع. وللخروج من نقاش أفضلية التوجّه شرقاً او غرباً، دعوناً نتوجّه شمالاً ونقتبس أفكار وممارسات إقتصادية من الدول السكندينافيّة التي أثبتت نجاحها وتفوقها في مجالات عدّة نذكر منها مؤشّرات مستوى الحياة والسعادة والإستقلالية الإقتصادية وتكافؤ الفرص والعدالة الإجتماعية على كافة المستويات. كما تتميّز أيضاً بانخفاض معدلات البطالة مع نظام تعليمي لعلّه الأفضل في العالم مع شبكة رعاية صحية وإجتماعية متطورة جداً.
صحيح أن هنالك تراكم عوامل جغرافية وتاريخية وإجتماعية أوصلت هذه المجتمعات إلى مجموعة من القناعات والقرارات والممارسات التي كونّت وعيهم الجماعي وخياراتهم الإقتصادية. لكننا نكرر هنا أن لا مانع من التركيز عل أوجه الشبه مثل تقارب عدد السكان أو وجود ثروات طبيعية كالنفط والغاز التي يجب إستثمارها في أقرب وقت ممكن وكذلك الإستفادة من خبرات هذه الشعوب واقتباس ما يناسبنا من تجربتهم الناجحة أو من تجارب غيرهم من دول وشعوب العالم.
النموذج الجديد
يجمع النموذج المقترح بين حريّة الإقتصاد وشبكة متطوّرة للحماية الاجتماعية. وأهم ركائز هذا النظام تعتمد على العناصر التالية:
1 – نظام إقتصادي أفقي وشفاف يمنع الممارسات الإحتكارية على أنواعها ويشجّع على المبادرات الفرديّة والإبتكار وريادة الأعمال.
2 – عنصر بشري بمستوى تعليمي عالٍ ومتطوّر يوفّر مواهب استثنائية قادرة على الإبتكار وتقديم الحلول والأفكار الجديدة والمتطوّرة ويتماشى مع حاجات سوق العمل المحلي والأسواق المستهدفة لتقديم الخدمات والمنتجات اللبنانية. ولتحقيق هذا الهدف نحن بحاجة الى إعادة تكوين النظام التعليمي الجامعي والمهني والتدريبي بمؤسساته وبرامجه والقوانين التي تنظّمه.
3 – تعليم أساسي جيّد ومجاني لجميع المواطنين يكون مرتبطاً بحاجات المجتمع ويرفد حاجة السوق الى العنصر البشري الماهر.
4 – عناية طبية متطوّرة ومجانية لجميع المواطنين. إضافة إلى وضع خطط متوسطة وطويلة الأمد لتطوير القطاع الصحي بجميع جوانبه من التعليم إلى التدريب إلى المستشفيات المتخصصة ومعامل الأدوية المحلية ومراكز الدراسات والتطوير.
5 – فرص متساوية للجميع مع وضع هدف دائم هو تأمين العمل للجميع مما يحتّم تغيير الذهنية والأساليب السائدة في الوضع الحالي الذي لا يمكنه ان يستوعب اكثر من 20 بالمئة من الذين يصلون إلى سوق العمل في كل سنة.
6 – حماية إجتماعية شاملة وممولة من الضرائب مع ضمان شيخوخة وضمان بطالة لجميع المواطنين.
7 – قطاع عام رشيق وفعّال مع اعتماد المعاملات الإلكترونية لتسهيل ومراقبة علاقة المواطن بمؤسسات الدولة. هنا سيكون أحد أكبر التحديات لأن الانتقال من نظام الرشوة والتعقيدات الإدارية حيث الإدارة غابة يحكمها الموظف الفاسد والمرتشي إلى قطاع عام يكون قولاً وفعلاً في خدمة المواطن.
8 – إستثمار ذكي للموارد الطبيعية وللميزات التفاضلية للبلد من موقع جغرافي وثروات وعنصر بشري من خلال إقامة صندوق أو عدّة صناديق سيادية لإدارة الثروة النفطيّة وإدارة أصول الدولة ومرافقها وشركاتها الموجودة أو التي يجب انشاؤها.
نموذج مجرّب
هذا النموذج حقق نجاحات ومراتب أولى عالمية للدول السكندينافيّة تشكل حالات تدْرَس وتُدَرّس.
أ- أكبر وأنجح صندوق سيادي لإدارة الثروة في العالم موجود في النروج عن كيفيّة إدارة واستثمار ثروات النفط والغاز بقيمة 1.3 تريليون دولار، ومؤسسة الإستثمار الصينيّة 1.2 تريليون ثم الهيئة العامة للإستثمار في الكويت مع 0.7 تريليون.
ب – أفضل نظام تعليمي في العالم موجود في فنلندا والتي بالرغم من مساحتها الكبيرة نسبة إلى لبنان لديها الكثير من أوجه الشبه نذكر منها عدد السكان وإن لم يكن المؤشر الوحيد.
ج – كما أنّ “أسعد” دولة في العالم لهذا العام وللمرّة الخامسة على التوالي هي فنلندا.
د – نذكّر أيضاً بموقف ايسلندا عندما ضربتها الأزمة المالية سنة 2008 فقامت السلطات بواجبها منذ اللحظة الأولى وحَمَت ودائع مواطنيها بالكامل وعاقبت المرتكبين من مصرفيين وسياسيين بشدّة. الحالة الأيسلندية شكّلت مثالاً عالميّاً للشفافيّة والفعاليّة والحرص على المواطنين والمحافظة على عامل الثقة بإقتصاد البلد.
ان النجاحات التي حققتها هذه الدول ناتجة عن مجموعة من الخيارات الذكيّة والممارسات الجيّدة التي يمكننا أن نتعلم منها الكثير ونعتمد ما يناسبنا فقط. لكن العقبة الكبرى أمام اعتمادنا مثل الخيار “الشمالي” (Nordic) السكندينافي هي ضرورة تخلينا ولو لفترة من الزمن عن بعض الأساطير الفارغة التي تتحدّث عن اللبناني الشاطر والحربوق فنأخذ العبر من وقوعنا في أكبر حفرة فساد في العالم فنتواضع ونتعلم أساليب جديدة للخروج منها.