يروي المزارع أبو هشام غصين من بلدة القنطرة الجنوبية لـ»نداء الوطن» معاناته في عدم إيجاد عمّال زراعة من الجنسية السورية، لمساعدته في مواسم قطاف الحمضيات خلال الأشهر الماضية، والتبغ حالياً، بسبب هجرة الكثير منهم لبنان والتوجه إلى العراق طمعاً بجني المزيد من الأموال ولا سيما بالدولار الاميركي، ما إضطره للإستعانة بمزارعين من أبناء بلدته «مع زيادة في الأجر وتربيح جميلة» على حد قوله، لأن الاعمال الزراعية غالباً ما تتطلب مثابرة وجهداً جسدياً كبيراً، ويتوقع أن تتكرر هذه المعاناة في موسم قطاف الزيتون المقبل من دون أن يرى حلاً محتملاً لها.
معاناة ربات البيوت
معاناة أبوهشام مع إيجاد العمّال تشبه معاناة العديد من ربات البيوت اللواتي لم يعد بإستطاعتهن تحمل كلفة عاملة منزلية أجنبية (أثيوبية أو فلبينية) بالدولار الاميركي. ويُحاولن سد هذه الحاجة بالاستعانة بعاملة نظافة سورية على «الساعة». تقول ماغي عيسى لـ» نداء الوطن» أن «الطلب على العاملات السوريات كبير جداً مما يدفعهن إلى زيادة أجرهن ليصل إلى 75 ألف ليرة للساعة، وفي حال كانت المسافة التي ستقطعها العاملة كبيرة تطلب من ربة المنزل دفع كلفة النقل أيضاً. وغالباً ما تخلف بوعدها بسبب كثرة الطلب عليها مما يدفع ربة المنزل إلى إنجاز أعمالها بمفردها».
تراجع الأعداد بسبب الأزمة
تجربة كل من أبوهشام وماغي يعكس ما خلفته الازمة الاقتصادية وما تبعها من أزمة شح الدولار في لبنان من تضرر نواح كثيرة من الحياة الاجتماعية والنشاط الاقتصادي والتحديات الجديدة، التي يواجهها سوق العمل. ومن بين النتائج المباشرة لتلك الأزمة إعادة هيكلة «سوق العمالة الأجنبية» بمعنى تراجع أعداد العاملات المنزليات إلى أكثر من النصف خلال السنوات الثلاث من الازمة، بالاضافة إلى تراجع أعداد العمال السوريين والمصريين الذين يعملون في قطاعات الزراعة والبناء. وهذا ما أظهرته أرقام «الدولية» للمعلومات» بأنه «في لبنان 600 ألف عامل سوري في العام 2021، أي بتراجع ملحوظ عن السنوات السابقة عندما كان يُقدر عددهم بـ900 ألف. أما بالنسبة للجنسية الفلسطينية، فقد بلغ عدد عمالها في لبنان 130 ألفاً وعدد العمال الأجانب في لبنان من الجنسيات العربية والأجنبية 260 ألفاً، متراجعاً من 350 ألفاً. وبحسب الدولية للمعلومات أيضاً في كل عام كان يأتي نحو 57 ألف عامل أجنبي جديد إلى لبنان، إلا أن هذا العدد تراجع إلى نحو 10 آلاف في عام 2020، وتفيد أرقام الامن العام اللبناني إلى تراجع عدد سمات العمل التي منحها إلى ما دون العشرة آلاف، وتحديداً 9780 سمة عمل جديدة لأجانب في عام 2020، في مقابل 57957 سمة عمل في عام 2019 وتُظهر العمليات الحسابية تراجعاً بمقدار 83 في المئة، أي ما يساوي 48177 سمة عمل.
يطلبون «الفريش» دولار
لكن مقابل «إعادة الهيكلة» التي يعيشها قطاع العمالة الاجنبية، ثمة جانب آخر يتمثل بأن هذه الشريحة من العمال تتقاضى أجورها بالدولار «الفريش» او ما يعادلها بالليرة وتُشارك في إستنزاف العملة الصعبة من لبنان. اذ يقدر تقرير لبنك عوده تحويلات العمالة الأجنبية بنحو 2.1 مليار دولار في 2021. وتشكل تلك العمالة منافسة لليد العاملة اللبنانية التي تعاني من بطالة وأزمة معيشية خانقة، لكن هذا الواقع لا يمنع من التمييز بين «عمالة ضرورية كحال العمال السوريين في مجال البناء والزراعة، وأخرى تشكل منافسة للعمالة والوطنية واليد العاملة اللبنانية كما هو حال العمال في المحلات التجارية والمطاعم.
ويعتبر خبراء أن العمالة الأجنبية تشكل «ضرورة للاقتصاد اللبناني وليست سلبية، لأنها تقوم بالمهن التي يمتنع اللبناني عن القيام بها، على غرار جمع النفايات والتنظيفات. كما أن وجود العمالة الأجنبية يخفّض كلفة الإنتاج ويجعل من الصناعة المحلية أكثر تنافسية ويفتح الباب أمام التصدير، ما يتيح إدخال دولار إضافي إلى السوق المحلي.
لا يموت الذئب و لا يفنى الغنم
يحاول وزير العمل مصطفى بيرم مقاربة ملف العمالة الاجنبية في لبنان وفقاً للمثل القائل: «لا يموت الذيب ولا يفنى الغنم»، لأنه يعلم أن هذه العمالة تستنزف العملة الصعبة وتؤثر على العجز في ميزان المدفوعات من جهة، لكنها تسد ثغرة وفراغاً في قطاعات خدماتية وإنتاجية لا تلقى إقبالاً من العمال اللبنانيين من جهة اخرى. ويشرح بيرم لـ»نداء الوطن» هذه المقاربة بالقول: «منذ بداية الأزمة وتسجيل فوارق كبيرة بالدولار الاميركي حصل إنخفاض كبير جداً في عدد عاملات الخدمة المنزلية ووصلت إلى 70 بالمئة تقريباً، كما حصل إنخفاض في أعداد عمال التوضيب والتنظيفات والحمّالين. لكن في الفترة الاخيرة إزداد عدد الاذونات التي تطلب إستقدامهم من الخارج بسبب عدم الاقبال عليهم من قبل اللبنانيين»، لافتاً إلى أنه «بحكم مهمته للمواءمة بين حاجات سوق العمل من جهة والحفاظ على مصلحة العمال اللبنانيين من جهة ثانية، اصدرت قراراً تم فيه حصر 126 مهنة بالعمال اللبنانيين وتم نشرها على موقع وزارة العمل، وأطلقنا منصة للتوظيف بهدف خلق الحافزية للعمل. لأنه بسبب الاقتصاد الريعي بات هناك العديد من القطاعات والمهن التي لا يُقبل عليها المواطن اللبناني ولا سيما القطاع الزراعي والصناعي».
منصة ومرونة
يضيف: «الوزارة عبر هذه المنصة تقوم بواجبها لجهة حماية العمال اللبنانيين من خلال حجز مهن خاصة بهم وحمايتهم من المنافسة، وبالرغم من ذلك يمكن تسجيل أن لا إقبال شديداً على بعض المهن بسبب «النظرة المجتمعية» تجاهها. لكن بهذه الخطوة تكون الوزارة إحترمت قرارها بإيجاد فرصة العمل للبنانيين وأيضاً عدم تعطيل صاحب الشركة عن تسيير أموره».
شارحاً ذلك بالقول: «إذا كان الطلب هو لإستقدام عمال تنظيفات يُعطى الاذن بإستقدام عمال أجانب لأن هناك نسبة ضئيلة من اللبنانيين الذين يتقدمون للعمل في هذا القطاع، ولكني ألزم صاحب الطلب بالتسجيل بمنصة الوزارة والاعلان بأنه بحاجة لعمال تنظيفات مثلاً. وفي حال لم يتقدم عمال لبنانيون خلال أسبوعين نعطيه الاستثناء بالاستقدام لكن التشدد هو في الاساس حماية للعامل اللبناني».
يشدد بيرم على «ضرورة إعادة تثقيف اللبنانيين حول الاقبال على جميع المهن والقطاعات. وهذا ما يحصل في كل دول العالم. ويدعو الشباب للتسجيل في منصة وزارة العمل خصوصا أن كل الاجراءات المطلوبة مجانية».
يوافق بيرم على أن التصدي للعمالة غير النظامية صعب في ظل وجود عدد هائل من النازحين السوريين، يقول: «حاولنا التصدي لها من خلال قانون العمل الجديد ولحظنا فيه تنظيم العمالة غير النظامية التي تنافس بشكل غير مشروع اللبنانيين وأكثرها من العمال السوريين»، معتبراً أن «مسؤولية هذا الامر يتحمله المجتمع الدولي الذي يرفض إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم مع أن الظروف الامنية تسمح بذلك. علماً أنه، إقتصادياً وإجتماعياً، لا يمكن للبنان أن يستمر على هذا المنوال، وأن يبقى ثلث سكان لبنان من النازحين الذين يتلقون المساعدات من المجتمع الدولي، في حين أن الدولة اللبنانية هي وحدها من يتحمل الاعباء».
ويختم: «لذلك أتشدد في إعطاء إجازات العمل أو ما يسمى بالموافقة المسبقة والاستثنائية لمحاربة هذه العمالة. لكني مرن في تجديد من هو موجود في لبنان منذ فترة، كما أنني أتشدد في الموافقة على إستقدام العمالة الاجنبية (بمن فيهم السوريون) للمساهمة في خفض نسبة خروج العملة الاجنبية من لبنان إلى الخارج، لأن اليد العمالة الاجنبية لا تستثمر في لبنان وهذا ما يمكن أن نقوم به لخفض العجز في ميزان المدفوعات».
إنخفاض العمالة الاجنبية لا يلغي المنافسة
يوافق رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الاسمر على ضرورة عدم تعميم «المنحى السلبي» للعمالة الاجنبية في لبنان، شارحاً لـ»نداء الوطن» أن «العمالة الاجنبية إنخفضت إلى أكثر من النصف منذ بداية الازمة ولا تزال، منها العمالة المصرية والسورية، رغم أنها لا تزال مرتفعة، وتؤثر تأثيراً مباشراً على العمالة اللبنانية وخاصة في المهن الفنية (السباكة والدهان وتمديدات الكهرباء)، وهي غير مضبوطة وغير واضحة الارقام (عمال من دون إقامات شرعية)».
يضيف: «إنخفض عدد العاملات المنزليات الأجنبيات، وكإتحاد قمنا بحملات لتشجيع اللبنانيين على الانخراط في كل الاعمال التي يقوم بها العمال الاجانب ولا سيما عمالة الافران (لبنان يحتاج إلى 13 ألف عامل كما أظهرت الدراسات)، وتمّ إنشاء منصة لإستقبال الطلبات وتعاونا مع البلديات في هذا الموضوع ولا سيما بلدية الغبيري ونقابة أصحاب الافران. إلا أن نسبة الاستجابة من قبل العمال اللبنانيين لا تزال دون المستوى المطلوب»، لافتاً إلى أن «اللبنانيين لا يزالون يحسبون حساب «البرستيج» الذي يمنعهم من ممارسة بعض الاعمال بالرغم من الازمة، ولو أن هناك إستجابة من قبل العمال اللبنانيين لشهدنا إنخفاضاً إضافياً في اليد العاملة الاجنبية في لبنان، ولا سيما الاعمال الزراعية والفنية واليدوية وفي محطات الوقود واعمال البناء».
يعتبر الاسمر أن «تحويل الدولارات إلى الخارج لا يزال مسموحاً عبر شركات التحويل المالية. وهذا أمر يجب أن ينظمه قانون الكابيتال كونترول، وقد وضعت وزارة العمل مؤخراً تنظيماً للعمالة الأجنبية والعبرة دائماً في التنفيذ لأن اجهزة الرقابة غير موجودة «، مشدداً على أنه «شخصياً لست ضد العمالة الاجنبية إلى أي جنسية إنتموا إلا أن الاولوية يجب أن تبقى للعمال اللبنانيين، وهذه مسؤولية الدولة في ظل الازمة التي نعيشها وعلى اللبنانيين عدم الخجل من ممارسة أي مهنة طالما أنها تؤمن عيشاً كريماً».
بلغة الارقام يشرح رئيس مركز الابحاث في بنك بيبلوس نسيب غبريل لـ»نداء الوطن» أن»العمالة الأجنبية في المنازل تسجل تراجعاً حاداً منذ بداية الازمة، وقد شاهدنا في سنتها الاولى أن سفارات دول هؤلاء العمال تتولى تسفيرهم إلى بلادهم، وهذا ما انعكس على ارقام التحويلات لهؤلاء العمال إلى الخارج، ففي العام 2018 سُجّل تحويل 5 مليارات دولار إلى الخارج، وفي العام 2019 نحو 4 مليارات و300 مليون وفي العام 2020 3 مليارات دولار، وفي الاشهر الأولى من العام 2021 تم تحويل 551 مليون دولار أي بتراجع 21 بالمئة عن العام السابق»، لافتاً إلى أن «هذا يعني أن هذه التحويلات في تراجع مستمر في السنوات التالية، لكن تأثيرها السلبي مستمر لأنها تسرب العملة الصعبة إلى الخارج، وتساهم في إبقاء العجز في ميزان المدفوعات مرتفعاً بالرغم تراجع نسبة الاستيراد من الخارج».
يرى غبريل أن «خروج الدولار من لبنان بسبب العمالة الاجنبية يمكن أن يُنظم من خلال قانون الكابيتال كونترول، لأنه لا يمكننا التخلي عن العمالة الاجنبية لكن الكابيتال الكونترول يساهم في ضبط عمليات التحويل إلى الخارج، خصوصاً إذا كان يشمل أيضاً شركات التحاويل المالية».
ويختم: «أما سبب عدم إشتغال العامل اللبناني في مهن العمالة الاجنبية، فيعود إلى أن صاحب العمل يفضل أن يدفع أجراً أدنى للعامل الاجنبي، بينما هو مضطر في رفع الاجور للعمال اللبنانيين ليتمكنوا من تأمين الحد الادنى من مستلزماتهم».