قبل نهاية الشهر الحالي، يُفترض أن تستضيف العاصمة بيروت بعثة صندوق النقد الدولي مرّة جديدة، لمناقشة المسار الذي ستسلكه الدولة اللبنانيّة، لتنفيذ مندرجات التفاهم الذي حصل على مستوى الموظّفين قبل الانتخابات النيابيّة. تحديد موعد الزيارة، تزامن مع خبر تعيين الصندوق ممثلًا مقيمًا له في لبنان، لمتابعة التطوّرات الماليّة والاقتصاديّة عن كثب، وخصوصًا في ما يتصل بالملفّات التي تندرج من ضمن التفاهم على مستوى الموظّفين، والتي حدد بشأنها الصندوق أهداف واضحة يُفترض أن يتم ترجمتها في مراسيم وتشريعات واضحة. وبالرغم من عدم الإفصاح حتّى اللحظة عن هويّة الشخص الذي سيشغل هذا المنصب الحسّاس، كان من الواضح من هذا الخبر، ومن خبر تحديد موعد لزيارة بعثة الصندوق، أنّ الصندوق قرّر القيام ب”زوم إن” على الملف اللبناني، وبوضع جميع تفاصيل هذا الملف تحت مجهر خبرائه.
تفحّص الجديّة
ما يريده الصندوق اليوم ليس سوى تفحّص جديّة لبنان في تنفيذ الإصلاحات التي وردت في التفاهم المبدئي معه، وخصوصًا تلك التي تم تحديدها كشروط حاسمة قبل تحويل التفاهم المبدئي إلى اتفاق نهائي. وفي ما يخص هذه الشروط، لا يبدو أن تأخير تشكيل الحكومة المقبلة –إن حدث- سيؤثّر كثيرًا على مجريات الأمور، خصوصًا أن الغالبيّة الساحقة من هذه الشروط ترتبط بتشريعات يجب أن يُنجزها المجلس النيابي، بعد أن تم وضع الإطار العام لخطّة التعافي المالي في الحكومة. مع الإشارة إلى أنّ الحكومة حرصت خلال الأشهر الماضية على تحويل معظم مراسيم مشاريع القوانين المطلوبة منها إلى المجلس النيابي لرمي الكرة في ملعبه، فيما تملك حكومة تصريف الأعمال القدرة على إرسال الجزء الآخر من هذه المشاريع –التي جري إعدادها- حتّى قبل تشكيل الحكومة الجديدة.
العين على المجلس النيابي
هكذا إذًا، باتت عين الصندوق على المجلس النيابي، لتفحّص مقاربته لبنود خطة التعافي المالي، الناتجة عن المحادثات مع صندوق النقد، والتي حوّل الصندوق بعض بنودها إلى شروط يجب تنفيذها قبل توقيع التفاهم النهائي، وهو ما يجب تنفيذه بتشريعات وقوانين في المجلس. أمّا أبرز القوانين وتعديلات القوانين التي يُفترض العمل عليها خلال الأشهر المقبلة داخل المجلس النيابي، لتنفيذ شروط التفاهم المبدئي مع صندوق النقد، فيمكن تلخيصها على النحو التالي:
– إقرار التعديلات على قانون سريّة المصارف، والتي أرسلتها حكومة تصريف الأعمال قبل الانتخابات إلى المجلس بمرسوم مشروع قانون. مع الإشارة إلى أنّ الغالبيّة الساحقة من بنود خطّة التعافي المالي لا يمكن تنفيذها بوجود قانون سريّة المصارف الحالي.
– مناقشة وإقرار موازنة العام الحالي، والتي أرسلتها الحكومة سابقًا للمجلس النيابي. أهميّة إقرار الموازنة لا تكمن في ضوابط الإنفاق التي تنص عليها فقط، بل تشمل التعديلات في ما يخص أسعار الصرف المعتمدة لاستيفاء الضرائب، والتي يجب أن يوافق عليها المجلس النيابيّ من ضمن مشروع قانون الموازنة المطروح.
– قانون الطوارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، والذي لم يتم إرساله إلى المجلس النيابي كمرسوم مشروع قانون بعد. إلا أنّ مصادر حكومية متابعة للملف تؤكّد أن استشاريي حكومة تصريف الأعمال أنجزوا الجزء الأكبر من مسودّة مشروع القانون، ما سيرمي الكرة لاحقًا في ملعب المجلس النيابي بعد إرسال مرسوم مشروع القانون إليه.
– قانون الكابيتال كونترول، المطروح حاليًّا للنقاش داخل لجنة المال والموازنة، والذي يُفترض أن يتم تعديله في ضوء ملاحظات صندوق النقد الدولي عليه. مع الإشارة إلى أن الصندوق يطلب بعض التعديلات التي تسمح بربط القانون بمسار توحيد أسعار الصرف، وبتدرّج معيّن في رفع القيود على السحوبات والتحويلات في ضوء تقدّم مسار التعافي المالي ومعالجة الخسائر المصرفيّة.
– الشروع ببحث الإصلاحات الهيكليّة المرتبطة بحوكمة مصرف لبنان، والتي لا يشترط الصندوق إقرارها قبل التفاهم النهائي معه، لكنّه يشترط التقدّم فيها لاحقًا بالتوازي مع تنفيذ خطة التعافي المالي.
– الموافقة على استراتيجيّة الحكومة، التي سيتم إنجازها في الفترة المقبلة، لإعادة هيكلة الدين العام والميزانيّة العامّة. وبينما يُفترض أن تنجز الحكومة هذه المهمّة، من الأكيد أن مشروع بهذا الحجم سيحتاج إلى تشريع خاص من المجلس النيابي لانطوائه على بنود تمس بالإنفاق العام.
الأسواق غير متفائلة
عليه، سيكون المجلس النيابي الملعب الذي سيحدد إمكانيّة المضي بتفيذ بنود الخطّة، أو الإطاحة بها، كما جرى منذ عامين مع خطّة لازارد. لكن كما بات من الواضح اليوم، ثمّة ما يكفي من مؤشّرات تدل إلى أن جمعيّة المصارف لن توفّر جهدًا في سبيل عرقلة تنفيذ هذه الخطّة بالتحديد، لما تنطوي عليه من بنود تمس برساميلها ومصالح أصحابها، وخصوصًا في ما يرتبط بتلك التي تفرض شطب رساميل المصارف الحاليّة للتعامل مع الخسائر وإعادة رسملتها من جديد. مع العلم أن هذه البنود جرى فرضها في الخطّة بناءً على شروط صندوق النقد، التي طلبت معايير معيّنة في ترتيب الأطراف التي ستتحمّل خسائر القطاع المالي.
في كل الحالات، ولهذا السبب بالتحديد، لا يبدو أن الأسواق الماليّة العالميّة تلقّفت بإيجابيّة موقف جمعيّة المصارف العدائيّة تجاه الخطّة، والتي أوحت بأن الجمعيّة تتجه لتحريك اللوبي النيابي الموالي لها لضربها. أمّا تشاؤم الأسواق العالميّة في ما يخص الخطّة، بعد صدور مواقف الجمعيّة، فظهر بوضوح من خلال التدهور في سعر سندات اليوروبوند السريع خلال الأسبوعين الماضيين، والذي انخفض إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، بل وإلى مستوى يقل عن أسعار سندات فينزويلا التي تعاني بدورها من أزمات ماليّة ونقديّة قاسية. باختصار، بدا وضحًا أن الأسواق تتوجّس من تطيير التفاهم مع صندوق النقد بسبب موقف الجمعيّة وحلفائها في النظام السياسي، ما سيعني الإطاحة باحتمالات خروج البلاد من حالة الانهيار التي تعيشها.