يتعامل العالم مع لبنان على قاعدة “خذ أي شيء أفضل من أن لا تأخذ شيئاً”. هذه القاعدة التي بدأ تطبيقها مع المساعدات الإنسانية، تكرست في ترسيم الحدود البحرية، وستمتدّ حسبما يظهر من مؤشرات إلى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. القاسم المشترك بين الوقائع الثلاث هو ضعف الدولة وتسرّع السلطة المتحكّمة بها إلى تحقيق إنجازات على المدى القصير، ولو كانت في الحقيقة مجرد استمرار لمسلسل الخيبات.
الرهان على نجاح المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والدخول في برنامج تمويلي معه كان، ولا يزال، يتمحور حول إلزام لبنان بإنجاز الإصلاحات وليس الحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار. فلبنان خلال السنوات الثلاث “العجاف” فقد ما يزيد عن 20 مليار دولار نتيجة الاستعصاء على الإصلاح، ولا سيما في القطاع العام. فتضخّم مؤسسات الدولة، وانعدام إنتاجيتها، وتراجع مداخيلها بما لا يقاس مع الارتفاع في الإنفاق عليها هي بيت الداء. ومع هذا تصرّ الخطة الرسمية للتعافي المتوافق عليها مع صندوق النقد الدولي الإبقاء عليه، مع تعديلات شكلية أعجز من أن “تخدش” وجه الهدر والفساد فيه. وتقترح بالمقابل شطب 70 في المئة من الودائع الخاصة والتي تفوق قيمتها 70 مليار دولار. وبغض النظر عن اعتباطية الشطب، فمن يضمن للحكومة ومن خلفها الجهات المدينة بعد الـ”Headcut” المنوي تنفيذه، النجاح في تخفيض العجز في الموازنة، وتعديل الحساب الجاري، ووقف الاستدانة والتمويل بطبع الأموال، وإقفال “مغاور” السياسيين العميقة في الدولة من مجالس وصناديق وهيئات. وكيف للدولة أن تحقق نمواً مطلوباً بمعدلات لا تقل عن 7 و8 في المئة بعد اقتطاعها الرساميل وتنفير المستثمرين. وهل ستستطيع الخروج من دائرة معالجة القدرة الشرائية المفرغة مع ما تنوي فرضه من رسوم وضرائب، وما سيقابلها من تصحيحات متوازية بالأجور؟
الشك بالتوصل إلى اتفاق مع “الصندوق”
هذه الأسئلة وغيرها الكثير، تثير استعجاب رئيس “الجمعية الاقتصادية اللبنانية”، الاقتصادي السابق في صندوق النقد الدولي د. منير راشد، من تمسك بعض الأحزاب بدور الحكومة الحالية ودور صندوق النقد الدولي على الرغم من عدم تحقيقهما أي انجازات خلال فترة 9 أشهر من الحكم. فرغم كل الضغوط عجزت الحكومة عن تحقيق خرق إصلاحي واحد، فهل ستستطيع إتمامها في فترات الراحة؟ هذا مع العلم أن “الإجراءات المسبقة العديدة المطلوبة في الاتفاق الأولي مع بعثة الصندوق ستستغرق على الاقل سنة كاملة، وربما أكثر لإنجازها”، بحسب راشد. كـ”تقييم 14 مصرفاً، إعداد موازنات آنية ومتوسطة الأجل، التدقيق الجنائي في مصرف لبنان. إضافة إلى ما لا يقل عن ثمانية شروط مسبقة أخرى، ستؤخر التوصل إلى اتفاق مع إدارة صندوق النقد. ذلك مع العلم أن ممارسات الصندوق عادة ما تركز على عدد محدود من الإصلاحات المسبقة التي يمكن أن تنفّذ بشكل فوري، مثل: تحرير سعر الصرف، وتعديل تعرفة الكهرباء لكي تمتحن جدية الدولة وقدرتها على الإصلاح. أما أن تُمثل الإجراءات المسبقة برنامجاً إصلاحياً كاملاً، فهذا يثير الشك في جدية التوصل لاتفاق مع الصندوق، وكذلك في مدى شفافية ممارسات الصندوق في التعامل مع الدولة اللبنانية”.
طروحات متناقضة
من جهة أخرى فإن “الافتخار” بالتوصل إلى اتفاق مبدئي مع بعثة الصندوق وتصويره إنجازاً ما بعده إنجاز، يثير الشك عند المواطنين بشكل عام والمراقبين بشكل خاص. فـ”واقع الأمر أن “الصندوق” يدير دفة الاقتصاد حسب ما يهواه، ولا يستمع لآراء الدولة والمعنيين من قطاعات ومؤسسات”، من وجهة نظر راشد. ويمكن الاستدلال على ذلك بوضوح من خلال التجربتين الطويلة الأمد والقصيرة، مع صندوق النقد. فبينما رغبت الحكومة في بداية الأزمة بإنشاء صندوق سيادي للمؤسسات العامة لتعويض المودعين، قام صندوق النقد برفضه مؤخراً مستخدماً حجة أن القطاع العام بوضعه الحالي لا يستطيع تحقيق أية أرباح. ذلك مع العلم أن حكومة الرئيس دياب اعتبرت أن القطاع العام سيصبح مربحاً بعد إصلاحه وخصخصته، وسيكون مثمراً حينذاك للتعويض عن خسائر المودعين. فصندوق النقد يستند في قراره إلى افتراضات واهية ولا يأخذ برأي الحكومة وأفكارها، حتى الإصلاحية منها. كما أن موقف بعثة الصندوق مغاير حتى لسياسة الصندوق العامة التي كانت و ما زالت تحبذ الخصخصة لإنقاذ الاقتصاد عندما تكون مؤسسات القطاع العام السبب الأساسي لانهياره. ونعلم جيداً أن القطاع العام بمجمله كان ولا يزال في صلب الأزمة اللبنانية.
ويضيف راشد أنه على المدى الطويل “لطالما هنّأ صندوق النقد الدولة على اتباع سياسة سعر الصرف الثابت (مربوطاً بالدولار)، واعتبرها إحدى ركائز الاقتصاد اللبناني”. بينما هي في الواقع كانت أحد الأسباب الرئيسية في الانهيار الحالي. كما أن الصندوق كان يشدد على أن السياسة المالية يجب أن تستهدف سعر الصرف المربوط وجذب العملات الأجنبية، ولذلك شجع الدولة على الاستدانة بالعملات الأجنبية لكي تحافظ على احتياطي مصرف لبنان، ما أدى إلى أزمة خدمة هذا الدين.
ضياع 3 سنوات
على ما يبدو، لم يعط الصندوق أي اهتمام لآراء المؤسسات اللبنانية الأخرى، وهي الأعلم بالوضع القائم وعدالة الإصلاح. وهو “يضيع الوقت الثمين في طلب إعداد الخطط والاستراتيجيات”، يقول راشد. لأنه لا يمكن للدولة القيام بإصلاح متكامل في الوقت ذاته، بل تتبع خطوات متسلسلة. وهذا الانتظار للتوافق على خطة متكاملة أضاع ثلاث سنوات حتى الآن”. ويمكن الاستنتاج أن “البعثة الحالية للصندوق لم تستوعب الإصلاح المطلوب، وبدّدت الوقت في طلباتها المتتالية. كما أنها تخاذلت عن تحقيق العدالة في تحميل المسؤولية عن الانهيار للجهة المسؤولة”، يضيف راشد. “فقد ارتأت تبريء الدولة والسلطة النقدية اللتين كانتا السبب الرئيسي خلف الانهيار غير المبرر، وتحميل العبء الأكبر للمواطن والمصارف. فهذا الأسلوب هو الأبسط ولكنه ليس الأصلح”. بالتوازي استمرت الحكومة بإثارة الهلع لدى المواطن، وإيهامه أن شطب الودائع هو الحل الوحيد، والبديل سيكون أسوأ. وبالتالي تعمّدت مقاربة الأزمة بالتحدي وبأسلوب تهديدي خال من المنطق، بدلاً من اتباع أسلوب الإقناع، إذا توفر. مع العلم أن هنالك حلولاً عديدة تعيد الثقة للمواطن بالقطاع المصرفي من دون القضاء عليه وعلى الودائع.
الحل ليس مستحيلاً
تحقيق الإصلاح في لبنان ليس معجزة. ومن الخطأ أن تُعتبر الأزمة من النوادر وليس لها سابقة في العالم. بل بالعكس، فمن النادر أن تقع دولة في أزمة مالية، وهي تملك احتياطيات بالعملات وموجودات أجنبية بقيمة 44 مليار دولار (عند بدء الأزمة). وهو رقم يفوق الناتج الإجمالي، ويشكل أربعة أضعاف عجز الحساب الجاري. والواقع انه من “الغريب جداً أن يتهاوى أي اقتصاد لديه هذه الثروة الهائلة”، برأي راشد. فـ”الدول التي تعترث إقتصادياً وحجمها يوازي الاقتصاد اللبناني فقدت معظم احتياطيها عند اللجوء لصندوق النقد وغيره، ولم يبق في حوزتها سوى بضعة أشهر من احتياطياتها من العملات والأصول الأجنبية لتمويل الواردات، كالأردن وتونس (والأمثلة كثيرة عن حالات مشابهة). وعليه فإن ما نحتاجه اليوم بحسب راشد هو “قدرات إستثنائية، ومعرفة متطورة في ممارسة تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية لإنقاذ لبنان وفي التعامل مع المؤسسات الدولية، وليس الطاعة لها. وعلى الأحزاب المبادرة إلى اختيار المرشح الأفضل لرئاسة الحكومة الذي يعطي الثقة وينقذ لبنان من محنته”.