يُعدّ قطاع السكك الحديدية في سوريا، الشريان الحيوي للنقل البشري والتجاري، والذي من شأن تفعيله أن يحلّ معظم مشكلات النقل في البلاد، وأن يوفّر وقتاً وتكلفة يفوقان حالياً قدرة السكّان والصناعيين والتجّار. على أن خُطط إصلاح هذا القطاع، الذي لحقت به أضرارٌ جسيمة خلال الحرب لا تقلّ قيمتها عن تريليونَي ليرة، لا تزال متعثّرة، بفعل غياب التمويل اللازم لها، وتردّد الدول الشريكة في مشاريع الربط الخارجي في الاستثمار في شبكة النقل السورية
شكّل قطاع السكك الحديدية، خلال سنوات الحرب، هدفاً ثابتاً لاعتداءات ممنهجة، تسبّبت في جنوح بعض القطارات، وصولاً إلى تفكيك هذه السكك شمالاً من قِبَل عناصر «حزب العمّال التركستاني»، الناشط بين ريفَي حماة وإدلب، والذي تولّى بيعها في تركيا أو تحويلها إلى الصَّهْر، وفق ما تقول المصادر الحكومية لـ«الأخبار». وتُقدِّر الحكومة خسائر هذا القطاع بتريليونَين و185 مليار ليرة سورية، بحسب إحصائية رسمية حصلت «الأخبار» على نسخة منها، وهو ما يمثّل رقماً كبيراً جدّاً، لن يكون بمقدور وزارة النقل، وحدها، تحمّله، والانطلاق على أساسه في عملية إعادة الإعمار، إذ على رغم قناعة السلطات بقدرتها على حلحلة الكثير من العُقد المرتبطة بذلك المجال، سواءً على صعيد الربط السككي داخل سوريا، أو بينها وبين دول الجوار – في مشروع طموح تسعى إلى تنفيذه -، إلّا أنها لا تلْقى، إلى الآن، الدعم اللازم من الدول الشريكة، من إيران إلى العراق، فالأردن الذي يمرّ منه الخطّ المأمول منذ عشرات السنين، نحو الخليج، إحدى أبرز وجهات التصدير من سوريا، سواءً كقاعدة إنتاج، أو كمحطّة «ترانزيت».
وخلال الحرب، لحقت الأضرار بـ80% من المحطّات، و100% من منظومة شبكة الإشارات والاتّصالات، وكذلك بالرؤوس القاطِرة، وشبكات الخطوط وعربات الركّاب وآليات الصيانة، والجسور والأنفاق، حتى إنه تمّت سرقة مراكز الإصلاح والصيانة، وهو ما يفسّر البطء الذي يَسِم عمليات الإصلاح، إذ نجحت الحكومة، إلى الآن، في صيانة 3 خطوط رئيسة، ووضعتها في الخدمة مباشرةً، وهي اللاذقية – حمص، وحلب – دمشق، إضافة إلى خطّ نقْل الفوسفات مع حمص وسط سوريا. ويقول مدير «مؤسّسة الخطوط الحديدية» السورية، نجيب الفارس، لـ«الأخبار»، إن ثمّة سعياً للحصول على «التمويل اللازم لإعادة إعمار محاور السكك الحديدية القائمة والمدمَّرة، بالإضافة إلى تطوير ما هو موجود حالياً من خطوط، ورفع الطاقة النقلية والتمريرية لها، وإنشاء محاور جديدة، بُغية تفعيل عمليات النقل عبر السكك الحديدية، لما لذلك من أثر إيجابي اقتصادياً واجتماعياً وبيئياً، عبر التخفيف من الازدحامات المرورية وكلفة صيانة الطرق البرّية، وأيضاً الحدّ من استهلاك المحروقات»، التي تعاني سوريا صعوبات في تأمينها حالياً.
الأولوية للنقل الصناعي
حالياً، تصبّ «مؤسّسة الخطوط الحديدية» جُلّ تركيزها على وضع النقل السككي في خدمة الصناعة السورية، التي تسعى هي الأخرى أيضاً للنهوض بعد الأضرار الكبيرة التي ألحقتها بها الحرب. وتعمل المؤسّسة على ربط المرافئ الجافّة والبحرية بالمدن والمناطق الصناعية، سواءً في عدرا غربي دمشق، أو حسياء في حمص، وكذلك جبرين والمسلمية في حلب، وهي مشاريع بعضها انتهى العمل فيه، وبعضها الآخر في طريقه إلى الإنجاز. ويوضح الفارس أن الخطط الموضوعة تشمل «إنشاء خطوط تحميل وتفريغ، ومستودعات تخزينٍ بطاقة سنوية»، مبيّناً أن «المرفأ الجافّ في حسياء سيؤمّن نقل 3 ملايين طنّ في المرحلة الأولى، و6 ملايين طنّ في المرحلة الثانية، و10 ملايين طنّ في المرحلة الثالثة»، مضيفاً أن «المؤسّسة وضعت في خطّتها الاستراتيجية ربط المطارات السورية بشبكة الخطوط الحديدية، وتنتظر الآن التمويل للمباشرة بالتنفيذ». ويشير الفارس، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن «السكك الحديدية تُعتبر شرياناً حيوياً واستراتيجياً فاعلاً في عمليات التطوير والتنمية الاقتصادية، وقد حدّدنا أولويات التوسّع في مجال قطاع النقل السككي، وسُبل تطويره واستكمال عمليات تأهيل الخطوط الحديدية والقاطرات والتجهيزات والعربات الخاصّة بنقل الحبوب والمواد الأولية والمشتقّات النفطية والفيول، وذلك وفق خططٍ آنية ومتوسّطة واستراتيجية»، ويتابع: «تُعتبر المرافئ الجافّة امتداداً للمرافئ البحرية، الأمر الذي يؤدّي إلى تخفيض تكاليف إنتاج السلع والمنتَجات، وتشجيع وتسريع التصدير، ما ينعكس بشكل إيجابي على الاقتصاد والتنمية الاقتصادية، لكن الزمن اللازم لاستكمال هذه المشاريع متعلّق بالتمويل، ففي حال تمّ توفير الأموال التي تحتاج إليها المؤسسة، سيتمّ الانتهاء من المشاريع غير المباشَر بها، بعد فترة تُراوح بين عام وثلاثة أعوام».
الربط الخارجي
تضع سوريا نُصب عينها الاستفادة من موقعها الاستراتيجي في قطاع النقل، وقد وضعت خُططاً لذلك منذ ما قبل عام 2011، حيث بدأ العمل بالبنى التحتية تمهيداً لتنفيذ عملية الربط. لكنّ الخطّ الذي يربط دير الزور بالحدود مع العراق – على سبيل المثال -، والذي نُفِّذ منه قرابة 20% قبل الحرب، «تَعرّض خلالها للتخريب المباشر والمقصود»، وفق ما يقول الفارس، و«الحال ذاته مع الخطّ الذي يربط سوريا بالعراق عن طريق معبر اليعربية». وتسعى الحكومة، اليوم، لإنشاء خطّ «غرب – شرق»، يصل الساحل السوري ومرافئه بالعراق، وصولاً إلى إيران، وامتداداً إلى دول شرق آسيا (على نسَق طريق الحرير)، وهي «تعمل على تأمين التمويل اللازم عن طريق التشاركية مع الشركات المختصّة في دول الجوار»، وفق حديث الفارس، الذي يَلفت إلى أن «الخطّ الآخر الذي يتّجه نحو الأردن، تَعثّر بسبب الحرب أيضاً، وعدم إنشاء عمَّان للخطوط الحديدية اللازمة على أراضيها». ويؤكّد «(أنّنا) نقوم باستكمال تنفيذ خطّ دمشق – درعا باتجاه الحدود الأردنية، ليكون المشروع جاهزاً من الجانب السوري»، بينما تفيد مصادر «الأخبار»، في وزارة النقل الأردنية، بوجود «محادثات حول تنشيط هذا المشروع الطموح، الذي يربط القارة الأوروبية عبر سوريا، بالأردن، والسعودية، فدول الخليج العربي، لكن في الوقت الحالي أولوية الأردن هي تنفيذ خط عمّان – دمشق، لأغراض سياحية بشكل رئيس».
بالنتيجة، الخُطط والأفكار والرغبة متوافرة لدى الجانب السوري، لإعادة إعمار شبكة السكك الحديدية في سوريا، وربطها مع دول الجوار، لكن يبدو أن حماس «الجيران» لا يُساوق تلك الإرادة حتى الآن؛ فالأردن لا ينفّذ الجزء المطلوب منه، وكذلك العراق وإيران لا يترجمان العلاقة السياسية القوية مع دمشق، بالاستثمار في قطاع النقل، بينما تغيب الصين عن الواجهة، على رغم أنها المعنيّ الرئيس بـ«طريق الحرير» الذي من المفترض أن سوريا تمثّل إحدى بوّاباته إلى المتوسّط.