صارت بداية الشهر عند معظم اللبنانيين محطة كئيبة لتوزيع أموالهم التي فقدت قيمتها إلى أصحاب المصالح من اشتراك المولّدات، وصهاريج الماء، والمحروقات، والدواء… ليتمكنوا من تأمين الحد الأساسي من حاجات الإنسان البديهية في غياب خدمات الدولة. على أن الحصة الكبيرة من الرواتب صارت تصبّ في جيوب أصحاب المولّدات، بعدما بدأت فاتورة الاشتراكات ترتفع شيئاً فشيئاً إلى أن راوحت مطلع شهر تموز بين 18 و21 ألف ليرة للكيلوواط، في حين حدّدتها تسعيرة وزارة الاقتصاد بـ13.656 ليرة للكيلوواط الواحد مطلع شهر حزيران.
ينتظر اللبنانيون “صدور” قيمة فاتورة الاشتراك كما لو كانوا ينتظرون نتائج امتحانات مصيرية، ويسأل بعضهم البعض الآخر عن “نتائجهم” ليتواسوا. غير أن كثيرين يرسبون في تحمّل النتيجة ويلجأون إلى اتخاذ قرارات تقشّفية، والأدقّ المزيد من الخيارات التقشفية بدءاً من تخفيض كمية الاشتراك وصولاً إلى إلغائها كلياً. فمن كان يشترك بـ5 أمبير نزل إلى النصف، ومن كان يشترك بـ2 ونصف أمبير خفّضها إلى أمبير واحد ليُبقي على اللمبة و”الواي فاي”، كما في حالة وليد “فعلى الأقل لا ننقطع عما يدور من أخبار في العالم”.
لكن ثمة من حسم أمره مبكراً وألغى الاشتراك كلياً معتمداً على بطاريات الـ”يو بي أس” يشحنها من ساعات قليلة تأتي فيها كهرباء الدولة. هذا ما فعلته أم حسن، التي جنّ جنونها بعدما تسلّمت فاتورة عدّاد الـ2.5 أمبير نحو مليون و400 ألف “رغم أن هوسي بات الانتباه للمصروف ولم أعد أضيء سوى لمبة واحدة”. ردة فعلها كانت، بعد أن طلبت من صاحب المولّد وقف الاشتراك نهائياً، وأعطته بطاقتها البنكية “قلت له اذهب وتقاضَ راتبي، وقيمته 900 ألف ليرة، وسأرى من أين أتدبّر له الباقي”.
سلطة الأمر الواقع
لأصحاب المولّدات أسبابهم. فسعر المازوت يرتفع عالمياً وقفز سعره خلال شهرين من 1100 دولار للطن الواحد إلى 1330 دولاراً. بالإضافة إلى المبالغ الاضافية التي تتقاضاها الشركات لقاء كلفة النقل، والتي وصلت إلى 30 دولاراً عن كلّ طن، عدا المبالغ التي تُحتسب بالدولار من صيانة وقطع وللزيوت وتغيير فلاتر وبدلات العمال. هذه التكاليف يدفع ثمنها المواطن إضافة إلى ما يترتّب على مصروفه من الكهرباء، لكن الفواتير التي يتسلّمها المشتركون مطلع كلّ شهر تبدو خيالية أمام هذه الأسباب، لذا لا يتردّدون في توجيه اتهامات بالجشع والتلاعب إلى أصحاب المولّدات. منهم من يشكو من اللعب بعدّاداتهم لرفع التسعيرة أو تسجيل مبالغ إضافية، ومنهم من يشكو عدم تركيب عدّاد له بحجة “أن الأكلاف لم تعد منظورة لدى وزارة الاقتصاد”.
اعترض عصام، الذي يسكن في صحراء الشويفات، على التلاعب بالعدّاد، ما رتّب عليه مبلغاً كبيراً، فكان جواب صاحب المولّد “إذا لم يعجبك فكّ الاشتراك والله معك”. هذا ما حاولت نهى القيام به، اعتراضاً على رفع التسعيرة لأنها تأخّرت في دفع الفاتورة يوماً واحداً. ألغت اشتراكها ومدّت اشتراكاً مع صاحب مولّد آخر وعدها بتركيب عدّاد، لتفاجأ بصاحب الاشتراك القديم يبادر إلى فكّ اشتراكها الجديد ويعيدها إلى “ولايته” من دون أن يسألها حتى. “اضطررت للقبول على مضض بانتظار أن أتمكن من تركيب طاقة شمسية، العبث مع قوى الأمر الواقع عبثي وقد يعني غياب الخدمات كلياً”.
… وفاتورة المصعد!
تشكو سمر، الموظفة في القطاع الخاص، من استنزاف راتبها فاتورة المولّد وحدها ومع ذلك لا يمكن لها التخلي عنه ولا سيما أن والدتها تعاني من ارتفاع الضغط، والحرّ يؤثر عليها سلباً.
تستفيض في رواية معاناتها اليومية التي تضطرها أحياناً للسهر حتى ساعات متأخرة من الليل، منتظرة مجيء الكهرباء الرسمية، لتكوي ثيابها، وتشغّل السخّان للاستحمام وتغسل الثياب كي لا “تمرّك” على العدّاد. كثيرة هي المرات التي تأخرت فيها عن عملها لأن قميصها “مجعلك”، إلى أن اعتمدت أخيراً شراء ثياب “تكوي نفسها بنفسها عندما نلبسها”.
تمتدّ المعاناة إلى خارج البيت لتطاول خدمات البناية. فاشتراك المصعد صار مصروفاً إضافياً بعدما تجاوزت قيمة الاشتراك الواجبة على كلّ شقة إلى الـ700 ألف ليرة، ما خلق نزاعات بين من لا يستطيع التخلي عن خدمة المصعد لدواعٍ صحية وبين من لا يستطيع تحمّل أي أعباء إضافية. لذا يفرض التقشف أحياناً خيارات من قبيل إقفال منزل، كما هي الحال مع أمّ فادي التي انتقلت إلى العيش مع ابنها وإغلاق منزلها منذ نحو سنة، لأنها غير قادرة على دفع قيمة الاشتراك، وهي بحاجة إلى تشغيل جهاز الأوكسيجين.
يقول صاحب أحد المولّدات في بيروت، إنه دفع نحو 250 ألف دولار كلفة مازوت لشهر واحد. “أنا لديّ مولّد واحد وفي لبنان نحو 7000 مولد، احسبوها”. هذه الكلفة كان ممكناً أن تجمعها الدولة وتأتي لنا بالكهرباء لـ24 ساعة من دون كل هذه المعاناة والكدح والمشكلات التي تثار يومياً.