بعد سنتين على انفجار مرفأ بيروت، مازالت آثار هذه الفاجعة ماثلة للعيان، سواء من خلال المشاهد الحيّة داخل المرفأ وفي محيطه، أو من خلال التداعيات الاقتصاديّة الطويلة الأمد التي تركها. وتداعيات الانفجار الاقتصاديّة، تتنوّع بين تلك التي طالت المرفأ وعمليّاته وقدرته الانتاجيّة، وتلك التي طالت الحركة الاقتصاديّة في المناطق المتأثّرة بالانفجار.
ولعلّ أهم ما أبقى على تداعيات الانفجار ماثلة للعيان حتّى اللحظة، وخصوصًا على المستوى الاقتصادي، كان غياب الدور الرسمي الذي يُفترض أن تلعبه الدولة اللبنانيّة، من خلال خطّة متكاملة لإعادة بناء المرفأ ومحيطه. وبانتظار هذه الخطّة، التي يحب أن تبدأ بالبحث عن دور ووظيفة المرفأ، وطبيعة الاقتصاد والقطاعات الذي يجب أن يخدمها، من الصعب توقّع نهضة كبيرة في عمل المرفأ.
غياب التخطيط لمستقبل المرفأ
أهم ما كان مطلوب من هذه الخطّة، التي لم تنوجد، لم يكن تخصيص الإمكانات الماديّة من قبل الدولة لهذا المسار، والتي كان بالإمكان تأمين جزء كبير بشراكات مع القطاع الخاص، وخصوصًا في ما يرتبط بعمليّة إعادة إعمار وتطوير المرفأ. الجزء الأساسي من هذا المسار، والذي كان يُفترض أن تحدده الخطّة الغائبة، يرتبط تحديدًا بالتخطيط لمستقبل المرفأ كدور ووظيفة، وهو ما يؤسّس لإعادة تحديد نوعيّة الاستثمارات المطلوبة في هذا المرفأ، ونوعيّة المهام والخدمات التي يفترض أن تقدّمها المرافق الموجودة فيه. وهذا النوع من الخطط، كان من المفترض أن يتكامل مع رؤية الدولة لكيفيّة تنظيم واستثمار المناطق المحاذية للمرفأ، والمتضرّرة من الانفجار، ونوعيّة الحوافز التي يمكن أن تؤسّس للتنظيم والاستثمار المُخطط له. وكل ذلك، يتفاعل في العادة مع الرؤية الاقتصاديّة الأشمل، والتي تشكّل طريقة تشغيل واستثمار مرافق المواصلات، ومنها المرافئ طبعًا، أبرز أركانها.
في النظريّة، يمثّل كل ما سبق السيناريو المثالي بعد الانفجار، وهو ما لم يحصل حكمًا. مع الإشارة إلى أنّ الدولة كانت أمام تفجير مفجع، لكنّها كانت في الوقت نفسه مناسبة لإعادة النظر بهذا المرفق كنموذج استثماري. وهذه المناسبة، تزامنت مع سقوط النموذج الاقتصادي بأسره قبل بضعة أشهر من التفجير، وهو ما كان يفترض أن يكون بدوره مناسبة أخرى لإعادة النظر بطبيعة النظام الاقتصادي الذي ستعمل على أساسه البلاد في المستقبل، وبدور الدولة في بنائه. بمعنى آخر، كان من المفترض أن تكون المناسبتان، بشكل أو بآخر، استحقاقاً يعيد النظر بنوعيّة القطاعات الاقتصاديّة التي ستراهن عليها الدولة في المستقبل، وبنوعيّة المرفأ الذي يُفترض أن يخدم هذه القطاعات.
ومن الناحية العمليّة، لا يوجد أي مبالغة في تقدير أهميّة التخطيط لوظائف المرفأ ونموذجه الاستثماري، في إطار البحث في الخطّة الاقتصاديّة الأشمل والأوسع للبلاد. فخطط التنظيم المدني وشبكات النقل، وخطط التنمية الاقتصاديّة ودعم القطاعات والصناعات الوليدة والناشئة، غالبًا ما تربط في جميع الرؤى الاقتصاديّة الواعدة بنوعيّة الاستثمارات المطلوبة في المرافق التي تصل الدول بالخارج، وخصوصًا المرافئ. وفي هذه الخطط، غالبًا ما يتم الاخذ بالاعتبار العوامل الاستراتيجيّة المرتبطة بالمنافسة الإقليميّة، وبالأدوار التي تلعبها المرافئ المحاذية، وبتوزيع الأدوار بين المرافئ الموجودة داخل الدولة نفسها. وبغياب كل هذه الخطط، تقتصر الأدوار التي تلعبها المرافئ في الاقتصاد المحلّي بالدور التمويني، أي استيراد السلع التي يحتاجها المجتمع المحلّي للاستهلاك، والقيام ببعض أدوار التصدير للصناعات القليلة التي يمكن أن تصمد بغياب الرؤى الاقتصاديّة المتكاملة.
المرفأ كجائرة ترضية
كما هو معلوم، لم تبادر الدولة اللبنانيّة إلى وضع أي خطّة اقتصاديّة متكاملة منذ حصول الانهيار، بل اقتصرت تصوّراتها على خطتين للتعافي، بما لا يستهدف أكثر من ترقيع خسائر القطاع المالي. وكما بات واضحًا، لم تعمل الدولة على أي تصوّر لكيفيّة النهوض بالمرفأ كدور ووظيفة، ولم تحاول حتّى التفكير بإعادة النظر بالأدوار والوظائف التي يقوم بها. ولذلك، اقتصرت طموحات لبنان على إعادة تلزيم تشغيل محطّة الحاويات الجديدة في المرفأ لمدّة عشر سنوات، لشركة CMA CGM الفرنسيّة المقرّبة من الرئيس الفرنسي ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الذي ربطته بها شراكات سابقة. بمعنى آخر، أقصى طموحات الدولة لهذا المرفأ لم تتجاوز تقديمه كجائرة ترضية، للدور الفرنسي الذي نشط على شكل مبادرة سريعة بعد الانفجار، ولرئيس الحكومة الذي أنتجه –بعد مخاض عسير- هذا الدور.
ولهذا السبب بالتحديد، اقتصرت انتعاشة المرفأ اليوم على الدور الذي تلعبه محطّة الحاويات، مع الحد الأدنى من الخدمات المكمّلة لدور هذه المحطّة، فيما تسود في مختلف أرجاء المرفأ آثار الخراب الذي تركه الانفجار منذ سنتين.
أمّا محيط المرفأ، فتُرك لعمليّات الإغاثة والمساعدات التي قدمت معظمها الجمعيّات والجهات الداعمة الأجنبيّة، بغياب أي تصوّر رسمي متكامل لكيفيّة إنعاش هذه المنطقة اقتصاديّة. وهذا تحديدًا ما يفسّر الأرقام التي تشير إلى أن أكثر من نصف المؤسسات الاقتصاديّة التي تضرّرت عند حصول انفجار الرابع مع آب، لم تعاود العمل بعد حصول الانفجار. وهكذا، تقاطعت الفجوة الاقتصاديّة الناتجة عن تراجع دور وحجم عمليّات المرفأ، مع الفجوة الناتجة عن تضرر المناطق المحيطة به، وإقفال نسبة كبيرة من المؤسسات التي كانت تعمل هناك.
آخر أرقام المرفأ تشير إلى أن نشاطه خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام اقتصر على نصف الحركة التي شهدها في الفترة المماثلة من العام 2019، قبل أن يضربه الانفجار، وقبل أن يتأثّر بتبعات السقوط الاقتصادي الحر على مدى سنتين وخمسة أشهر. مع الإشارة إلى أن أرقام عام 2019 كانت متأثّرة بدورها بالركود الاقتصادي الذي كانت تشهده البلاد في ذلك الوقت، ما يعني أن هذه الأرقام لم تكن تعكس طاقة المرفأ الإنتاجيّة المثلى. باختصار، مازالت تداعيات التفجير، ومعها تداعيات الأزمة، وآثار غياب السياسات التصحيحيّة الشاملة، ماثلة أمامنا في أرقام مرفأ بيروت. وبانتظار الخطط المطلوبة لمعالجة آثار الانهيار والتفجير معًا، وهي خطط يُفترض أن تتكامل معًا، يعيش المجتمع زمنًا ضائعًا تُهدر فيه الموارد والإمكانات.