حرّكت حادثة “فدرال بنك” مياه مشروع قانون الكابيتال كونترول الراكدة، الذي بات مطلبًا ملحًّا اليوم بالنسبة إلى جمعيّة المصارف، لربط القيود على التحويلات والسحوبات بإطار قانوني يحيّد المصارف عن الاشتباك المستمر مع زبائنها. مع الإشارة إلى أنّ إقرار هذا القانون بالسرعة القصوى كان إحدى النقاط الأساسيّة التي طالب بها بيان الجمعيّة العموميّة لجمعيّة المصارف يوم الأربعاء، الذي صدر لتثبيت المطالب التي استهدف تحقيقها إضراب المصارف يوم الإثنين الماضي. ومن الناحية العمليّة، باتت الأمور مهيّئة داخل مجلس النوّاب لطرح مشروع القانون هذا في اللجان المشتركة، بعد أن أنجز نائب رئيس المجلس الياس بو صعب مسار جمع الملاحظات من جلسات نقاش تقنيّة جمعت بعض المختصّين والمعنيين بالقانون. وحسب مصادر متابعة للملف داخل أروقة المجلس، بات طرح مسودّة مشروع القانون من جديد للنقاش في اللجان المشتركة قاب قوسين أو أدنى.
وكما هو الحال عند مناقشة أي قانون يُعني بمصالح القطاع المصرفي، أعدّت جمعيّة المصارف باكرًا أهدافها من هذا القانون، للتمكّن من الضغط والتشبيك مع النوّاب على أساسها. نقاط الاشتباك الأساسيّة التي تتوقّعها جمعيّة المصارف، تبدأ من إطار القانون العام وشكله، وتمتد لتشمل أدق تفاصيله التي تُعنى بنطاقه الزمني ومفعوله الرجعي وآليّات تنفيذه. وفي كل نقطة من هذه النقاط، تملك الجمعيّة تصوّرها الواضح لما هو مطلوب، لحماية مصالحها على امتداد فترة تطبيق القانون.
قانون يتيم أم سلّة متكاملة؟
نقطة الاشتباك الأساسيّة والأولى، التي تحضّر لها جمعيّة المصارف في هذه اللحظة، تتركّز اليوم حول السؤال التالي: هل يجب تمرير الكابيتال كونترول من ضمن سلّة متكاملة من تشريعات خطّة التعافي الماليّة؟ وهل يجب ربطه بتشريعات أخرى تحدد كيفيّة التعامل مع الخسائر المصرفيّة في المستقبل؟ أم يُفترض على العكس تمامًا، أن يتم تمريره على حدة، وبمعزل عن أي خطّة أو قانون؟
بخلاف ما تطالب به الأطر التي تمثّل المودعين، تحاول المصارف الحؤول من دون ربط القانون بأي قانون آخر، ومن دون اشتراط تمريره من ضمن سلّة متكاملة تنص عليها خطّة التعافي المالي. فالمودعون توجّسوا منذ البداية من فكرة تمرير قانون الكابيتال كونترول بغياب سائر القوانين التي يُفترض أن تؤسس للحل الشامل، وأهمها القانون الطارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، والذي يُفترض أن تمثّل خريطة الطريق لمعالجة أزمة المودعين. وبمجرّد تمرير الكابيتال كونترول لوحده، لن تملك المصارف أي دافع لتنفيذ سائر متطلبات الحل، ومنها تحمّل نصيبها من الخسائر في إطار عمليّة إعادة الهيكلة، طالما أنّها باتت تملك الغطاء القانوني اللازم للتمنّع عن سداد التزاماتها للمودعين.
جمعيّة المصارف، في المقابل، تصر على تمرير القانون بأسرع وقت اليوم، من دون انتظار قانون إعادة الهيكلة وسائر تشريعات خطّة التعافي المالي. ومن الناحية العمليّة، يُخفي إصرار الجمعيّة على هذه النقطة رغبة دفينة بمحاولة الحصول على صك البراءة التشريعي، الذي يعفيها من التزاماتها للمودعين، من دون إجبار أصحابها على تقديم ما يلزم من سيولة لإعادة الرسملة، أو تحمّل اقتطاعات من الرساميل في سياق إعادة هيكلة القطاع. وكما هو معلوم، ستكون المصارف في وضعيّة تفاوضيّة أقوى بمجرّد الحصول على صك البراءة التشريعي هذا، أي قانون الكابيتال كونترول، ما سيسمح لها بفرض شروطها عند بحث قانون إعادة هيكلة القطاع.
حبس للودائع أم ضبط للرساميل؟
السؤال الآخر، يُعنى تحديدًا بشكل القانون العام وأهدافه. صندوق النقد أصرّ منذ البداية أن يمثّل القانون أداة متكاملة لضبط السيولة المتبقية في البلاد بالعملة الصعبة، وتنظيم استعمالها وتداولها، بما يتكامل بدوره مع مسار توحيد أسعار الصرف وإنشاء نظام جديد للقطع. مع الإشارة إلى أنّ صندوق النقد لم يشترط في التفاهم على مستوى الموظّفين إقرار الكابيتال كونترول كبند مستقل في هذا التفاهم، بل ورد ذكر الكابيتال كونترول من ضمن الأدوات التي تسهّل عمليّة توحيد أسعار الصرف. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ هذه المقاربة لا تعني نقل البلاد باتجاه الاقتصاد الموجّه كما يوحي البعض، بل تحدد إطاراً زمنياً مؤقّتاً يتم خلاله اعتماد أدوات محددة لتنظيم تداول العملة الصعبة، مع التدرّج في الخروج من هذه المرحلة بالتوازي مع نجاح عمليّة توحيد أسعار الصرف وتعويمها.
في المقابل، لا يبدو أن جمعيّة المصارف تكترث لكل هذه التعقيدات التقنيّة. بل وعلى العكس تمامًا، تبدو جمعيّة المصارف مهتمّة بحصر مفاعيل القانون بتشريع القيود على ودائع ما قبل تشرين الأوّل 2019، في مقابل تحرير جميع التداولات النقديّة الأخرى من مفاعيل هذا القانون. وبذلك، يتحوّل القانون –كما تريده الجمعيّة- إلى أداة لتكريس التمييز بيع الودائع “القديمة والجديدة”، بدل أن يكون أداة لرفع القيود عن كل الودائع تدريجيًّا، بالتوازي مع تطبيق سائر مندرجات خطّة التعافي المالي.
عفو مصرفي شامل
النقطة الأهم، تتركّز في نطاق تطبيق القانون، والمدى الزمني الذي يشمله. فجمعيّة المصارف تصر في جميع المداولات على تضمينه بنوداً تنص على سريان مندرجات القانون على جميع الودائع المقامة والتي ستقام، بما فيها تلك التي صدرت فيها أحكام غير مبرمة (أي يمكن الطعن فيها في المستقبل). أي بمعنى آخر، تصر جمعية المصارف على إعطاء القانون مفعولاً رجعياً، يسري حتّى على الملفات الموجودة في المحاكم، والتي تُعنى بدعاوى جرى رفعها في الماضي، أو تلك التي صدرت فيها أحكام يمكن الطعن بها.
المفارقة الأساسيّة هنا، هي أن جمعية المصارف التي تطالب بالمفعول الرجعي هنا، هي نفسها الطرف الذي اعترض على شمول قانون تعديلات سريّة المصارف الداتا المصرفيّة التي يسبق تاريخها تاريخ إقرار القانون، على قاعدة عدم جواز التشريع بمفعول رجعي! باختصار، تريد جمعيّة المصارف المفعول الرجعي حين يتناسب مع مصالحها، في حالة مشروع قانون الكابيتال كونترول، وترفضه حين يتعارض مع هواجسها، في حالة قانون تعديلات سريّة المصارف.
نقاط إشتباك أخرى
بالإضافة إلى كل ما سبق، تتعدد نقاط الاشتباك الأخرى التي تتحضّر لها جمعيّة المصارف: من محاولة إطالة مدّة نفاذ القانون إلى أقصى فترة ممكنة، وتسهيل تجديد هذه المدّة، بالإضافة إلى محاولة تقليص سقف السحوبات النقديّة التي يضمنها القانون للمودع. وكل ذلك يشير إلى أنّ مسار تعديل وإقرار مشروع القانون سيكون مليئاً بالأفخاخ والمناورات، تمامًا كما جرى بالنسبة إلى قانون تعديلات سريّة المصارف. لكنّ المعركة الأساس سترتبط تحديدًا بجواز البدء بمناقشة القانون منذ البداية، قبل إحالة قانون إعادة هيكلة المصارف إلى المجلس النوّاب، وهي معركة ستتصدّى لها حكمًا الأطر التمثيليّة للمودعين التي خاضت معركة فرملة إقرار القانون قبل الانتخابات النيابيّة.