يُعيد الحديث عن رفع قيمة الدولار الجمركي، التذكير بنتائج رفع الدعم لجهة تحليق أسعار السلع والخدمات. لكن المتغيّر المنتظر، يأتي في ظل شبه انعدام قدرة المواطنين على تحمّل الأسعار الجديدة، وخصوصاً موظفي القطاع العام، من إدارات مدنية ومؤسسات عسكرية. ولا يعني ذلك قدرة جميع موظّفي القطاع الخاص على التحمّل، إذ لا يتناسب التصحيح الذي طرأ على رواتب القطاع الخاص، بالشكل المطلوب مع مستوى الغلاء المعيشي. ويُنتَظَر الأسوأ في ظل تحكّم كبار التجّار في السوق، الأمر الذي يدفع المواطنين للتهافت على السوبرماركت ومحاولة تخزين ما أمكَن، قبل جنون الأسعار مرة أخرى.
بين الكماليات والأساسيات
مع الإقرار المرتقب للدولار الجمركي بمعدّل 20 ألف ليرة، وتفادياً لإرهاق المواطنين بالأسعار، يعود السجال حول هوية السلع الأساسية والكمالية، في محاولة من الدولة لإظهار حسن النية تجاه مواطنيها. الضياع هو الجواب الواضح حول هذا السجال. فالبحث بين القوى السياسية يرتكز على معدّل الرسم الجمركي وليس على هوية السلع التي سيطالها الرسم. ذلك أن اختلاف هوية السلع يعود لاختلاف مصالح التجار وتشابك علاقاتهم بالسياسيين، وهو ما أفرَزَ في السابق دعماً لأصناف مثل الكاجو على حساب أصناف أخرى أساسية.
وراهناً، لفت وزير الاقتصاد أمين سلام النظر إلى أن “المواد الغذائية التي ستتأثر برفع الدولار الجمركي هي أجبان فاخرة مستوردة وبعض المعلبات والخضار التي تصلنا ضمن أكياس ولها صناعات رديفة في لبنان”. وطمأن إلى أن “الجداول التي تتضمن المواد الغذائية الخاضعة للدولار الجمركي الجديد سيعاد النظر بها ويتم تخفيض الرسوم عليها، وستخفض بالتأكيد من 30 و40 بالمئة إلى 20 و10 بالمئة ويمكن أن نصل لقناعة تخفيضها إلى صفر بالمئة، مع الاخذ بالاعتبار أولوية حماية الصناعة والإنتاج الوطني”.
تفاؤل ليس بمحلّه
تفاؤل وزير الاقتصاد الذي حذّر “تجّار الأزمات.. ألا يفكر أحد منهم باستغلال هذه الظروف للتلاعب بالأسعار من خلال البضائع المستوردة على دولار 1500 ليرة ليسعروها على الدولار الجديد ويرفعون الأسعار بشكل جنوني”، نَسَفه تهافت المواطنين على شراء ما أمكنهم من سلع أساسية خوفاً من الارتفاع الجنوني المنتظر. فلعبة التخزين في مستودعات التجار والسوبرماركت باتت مكشوفة، ولا قدرة للوزارة على الرقابة الفعلية وضبط ما تم شراؤه بالسعر الرسمي. فتجربة الدعم ومحطات البنزين والدواء، ما زالت ماثلة أمام الجميع.
وتؤكّد مصادر من بين أصحاب السوبرماركت في حديث لـ”المدن”، أن اقتراب إقرار الدولار الجمركي، وبعيداً من قيمته النهائية “شجّع الناس على شراء السلع. لأن الأسعار السابقة ارتفعت كثيراً في ظل وجود الدعم وإبقاء الرسوم والضرائب على السعر الرسمي، فكيف بها عندما يُرفَع الدولار الجمركي؟”. وتشير المصادر إلى أن “كل المحال التجارية والسوبرماركت شهدت إقبالاً كثيفاً على الشراء، مع أن الرواتب منخفضة ومن المفترض أن ارتفاع الأسعار حدَّ من حجم الاستهلاك. لكن الخوف دائماً ما يجبر الناس على التخزين بقدر استطاعتهم”.
مسارعة المواطنين للشراء، لم يقابله رفع للأسعار. فـ”المستوردون لم يرفعوا أسعارهم لأن تعديل الدولار الجمركي لم يحصل بعد”، يقول نقيب مستوردي المواد الغذائية هاني البحصلي لـ”المدن”.
ويتخوّف البحصلي من فوضى تصنيف ما هو أساسي وما هو كمالي، فالرسوم ستختلف وفق التصنيفين. ولا تفاؤل لديه في حسن التصنيف، لأن التجربة السابقة أفرزت دعم الكاجو على حساب الخضار المعلّبة. وعلى سبيل المثال “يُدفَع على الكاجو رسوماً بمعدّل 5 بالمئة، فيما يُدفَع على الذرة المعلّبة رسوماً بمعدّل 35 بالمئة وكذلك على جبنة القشقوان، فأيّهما كمالي أكثر، الذرة والجبنة أم الكاجو؟”. وبالنسبة إلى البحصلي “يسعى المستوردون إلى تخفيض معدّلات الرسوم على المعلّبات والأجبان لأنها أساسية في الغذاء اليومي للمواطنين”.
وفي الحديث عن الكماليات يستغرب البحصلي “إمكانية تحصيل الدولة إيرادات كبيرة من الرسوم على الكماليات. لأن معدّل استهلاكها يتضاءل في وقت يبحث فيه الناس عن الخبز والدواء والبنزين”. ولا يعني هذا الكلام تشجيع توسيع مروحة السلع التي تطالها الرسوم الجمركية المرتفعة، وإنما هو دعوة للدراسة المتأنية لجداول الرسوم والسلع التي ستطالها.
بالتوازي، يريد وزير الاقتصاد حماية الانتاج الوطني. لكن هل نملك الوقت؟ تلك الحماية تحتاج إلى تأمين البنية التحتية اللازمة وتطوير قطاعيّ الزراعة والصناعة، وهو أمر مستحيل حالياً. وبما أن أغلب المواد المصنّعة محلياً، تعتمد على مواد مستوردة، فإن أسعار السلع المحلية سترتفع حكماً مع إقرار الدولار الجمركي، وهو نتيجة تتناقض مع نوايا تطوير الإنتاج اللبناني.
انطباعات محلية ودولية
لا ثقة محلياً بما يمكن للنواب والحكومة إنتاجه. ولذلك، الأسعار سترتفع بلا رادع. وما إن تُقَرّ الرسوم الجديدة، حتى تخرج البضائع من المخازن وتُقَوَّم بالدولار الجديد. والرسوم الجديدة تعني زيادة الحاجة للدولار من السوق، ما يستتبع ارتفاعاً لأسعار الدولار، ومعه أسعار منصة صيرفة، وفي هذه الحالة، سترتفع أسعار المحروقات، أي بعضاً من أكلاف الإنتاج، ثم أسعار السلع… وهكذا تكتمل دائرة الأسعار، وتنضم إليها أرقام الفقر والبطالة.
عالمياً، يفقد لبنان القدرة على إظهار مؤشرات إيجابية لصندوق النقد الدولي، فالدولار الجمركي يعني زيادة تفرّعات أسعار الصرف، فيما الصندوق يطالب بتوحيد الأسعار. لكن مع ازدياد حجم الفقر والبطالة وسط غياب الإصلاحات، هل سيبقى المجتمع الدولي حاضراً لتمويل برامج المساعدات؟