ليس من المبالغة القول إن بعض التداعيات المتوقعة لرفع الدولار الجمركي، الذي تسعى حكومة الرئيس نجيب ميقاتي إلى إقراره، تشمل زيادة التهرب الجمركي، والتهريب عبر المعابر غير الشرعية ربما إذا تبيّن أن هناك فروقات كبيرة في أسعار بعض السلع بين لبنان وسوريا.
حالياً يدفع المستوردون رسوم الجمارك على بضائعهم،على سعر 1500 ليرة للدولار الواحد، في مقابل سعر للدولار في السوق التجارية يزيد على 33 ألفاً. وتشير التقديرات إلى أن التجار والمحتكرين زادت أرباحهم خلال الأزمة بنحو ملياري دولار فوق أرباحهم التقليدية.
وإذا اعتمد سعر جديد لما يسمى الدولار الجمركي عند 20 ألف ليرة، سيجد تجار ومخلصون جمركيون (بالتعاون مع رؤساء مصالح وكشافين في الجمارك) الأساليب المناسبة للتهرب الجمركي الذي يحرم الخزينة الإيرادات المرجوة المفترض تخصيصها لزيادة رواتب القطاع العام.
ألاعيب لتخفيف الرسوم
قبل الدخول في شرح آلية التهرب الجمركي، لا بد من الاشارة إلى أن التطوع في سلك الجمارك كضباط وعناصر، كان يتطلب دعماً من النافذين من سياسيين وعسكريين، لأن هذا السلك كان في عيون الجميع «الدجاجة التي تبيض ذهباً». ويروي والد أحد ضباط الجمارك لـ»نداء الوطن» أنه «دفع لأحد النافذين منذ 18 عاماً مبلغ 35 ألف دولار كي يضمن نجاح إبنه في الامتحانات».
ويشرح مساعد أحد المخلصين الجمركيين لـ»نداء الوطن» أن «هناك نوعين من التهرب الجمركي في المرفأ: إما عبر وضع البضائع التي يتم إستيرادها من قبل التاجر في خانة البضائع الأقل كلفة جمركياً، في حين أنها في الحقيقة من البضائع التي تستوجب نسبة رسوم أعلى. وهذا الامر يتم بالتعاون مع المخلص الجمركي وبالاتفاق مع أحد رؤساء المصالح والكشّافين، لقاء مبالغ مالية يتم الاتفاق عليها مسبقاً. وهناك أيضاً إدخال بضائع تتمتع بميزة «الوكالات الحصرية» من قبل تاجر لا يملك هذه الوكالات، بحيث يعمد التاجر بالاتفاق مع المصدر الاجنبي الذي إشترى منه البضائع، إلى تغيير نوعها على المستندات، وبالتنسيق مع شركة الشحن التي توقع على فواتير التاجر. أما دور المخلص الجمركي ورئيس المصلحة والمعاين والكشّاف، فهي القبول بختم شركة الشحن وتصريحاتها عن نوع البضاعة من دون أن يعمدوا إلى فتحها والتأكد من نوعها، على أن يحصل كل طرف على حصته من الأرباح غير الشرعية.
شركات وهمية لإبعاد الشبهات
ويشرح الصحافي الاستقصائي رياض قبيسي المتابع لهذا الملف لـ»نداء الوطن» أن «الرسم الجمركي يتم وضعه وفقاً لكلفة البضاعة المستوردة، وتبعاً لقاعدة النسبة المئوية بحسب نوع البضاعة، أو الرسم النوعي أي مبلغ مقطوع على عدد القطع المستوردة»، لافتاً إلى أن «آلية التلاعب تبدأ بالمخلص الجمركي الذي غالباً ما يعمد إلى إنشاء شركات وهمية لصالح التاجر ويعمد على تزوير الفواتير والمانيفستو. وفي حال تم إكتشافه لا يتم تغريم التاجر أو وضع إشارة قضائية على شركته».
يضيف: «حين تدخل البضاعة إلى المرفأ من المفروض أن تمر في دائرة القبول في الجمارك، لتحويلها إما على المسار الاخضر أو الاصفر أو الاحمر لتفتيشها. لكن غالباً ما تكون آلة السكانر في هذه الدائرة معطلة فيحصل التفتيش اليدوي. كما من مهام هذه الدائرة التدقيق بالمستندات، وهنا تتم أول خطوة نحو التلاعب من خلال التغاضي عن التدقيق في صحتها». وأكد أنه «بعد ذلك تمر البضائع على دائرة الكشف، وهنا تكون محطة ثانية مع الكشّاف الذي يمكن أن يكشف بضمير أو بما تمليه عليه «الرشوة بالعملة الخضراء»، فيفتح المستوعب وغالباً ما تكون مقدمته تحتوي على البضائع التي تم الاعلان عنها في الفواتير المزورة. أما في باقي أجزاء المستوعب فتقبع البضاعة الحقيقية والتي قيمتها أعلى وغير مصرح عنها». ويوضح أن «الكشّافين عن البضائع هم موظفو جمارك مدنيون. والتهرب الجمركي يتم من خلال التلاعب بالبيانات الجمركية عبر اعداد بيانات كاذبة حول النوع والقيمة والوزن، وهذا لا يحصل إلا بالتوافق بين المخلص والكشّاف وموظف القبول في المرفأ ورئيس المصلحة».
التهريب سيزيد
يتوقع قبيسي أنه «مع رفع الدولار الجمركي سيزيد التهريب، لأن رفع الدولار الجمركي غير مترافق مع ورشة إصلاح وتطهير للمرفأ من الموظفين الفاسدين. وهذا يعني أن السلطة سترفع الدولار الجمركي لأنه مطلب صندوق النقد، لكنها ستستمر بنفس النهج. اي ترسيخ الاقتصاد الموازي لكي يستفيد التجار المحسوبون على اطراف تلك السلطة، والذين لن يدفعوا رسوماً جمركية كما يجب، في المقابل سيمولون الحملات الانتخابية للسياسيين الذين أمنوا لهم الحماية».
ويختم: «رفع الدولار الجمركي سيشمل أيضاً الضريبة على القيمة المضافة، والتي يتم إحتساب الجزء الكبير منها من خلال الرسم الجمركي، وهي حالياً تستوفى على سعر دولار1500، بينما سيتم إستيفاؤها على سعر 20 ألف ليرة (إذا أقر هذا السعر). فهذا يعني زيادة أسعار السلع المستوردة بالحد الادنى ما بين10 و15 بالمئة».
المعابر غير الشرعية
عن التهريب عبر الحدود البرية، يشرح مصدر متابع لـ»نداء الوطن» أن «الطحين المدعوم هو المادة الاكثر تهريباً في المرحلة الحالية. فسعر الطن هو مليونان و300 ألف ليرة، بينما يباع في سوريا وفي السوق السوداء في لبنان بنحو 800 دولار فريش»، لافتاً إلى أن «الرقابة غير موجودة بشكل أساسي لا على مستوى وزارة الاقتصاد التي تسلم الطحين للأفران والمطاحن، ولا على المستوى الأمني لإقفال هذه المعابر المعروفة بأسماء أصحابها وهي نشطة منذ بداية الازمة، وتُدار من قبل مافيا- لبنانية- سورية وبتغطية سياسية وقضائية وأمنية معينة».
ويشير إلى أن «رفع الدولار الجمركي سيزيد من نشاط هذه المعابر باتجاه لبنان هذه المرة ربما، لأن العديد من التجار قد يستوردون بضائعهم عبر المرافئ السورية، ومن ثم إدخالها إلى لبنان عبر هذه المعابر لبيعها وفقاً لسعر دولار السوق السوداء، من دون أن يدخل إلى الخزينة اللبنانية أي مبلغ».
أسوأ وأسهل قرار
في ميزان الخبراء، يشرح الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين لـ»نداء الوطن» أن «رفع الدولار الجمركي سيرفع الاسعار وسيؤدي إلى إنكماش إقتصادي، كما انه قد يزيد من عمليات التهريب»، معتبراً «أنه أسوأ خيار يمكن أن تلجأ له الحكومة لتوفير إيرادات لسد العجز في المالية العامة».
ويرى أن «المشكلة هي في أن الدولة اللبنانية تفكر بالطريقة الاسهل لتمويل الخزينة، وهي زيادة الضرائب والرسوم ولا سيما رفع الدولار الجمركي. وهذا الامر له تداعياته الخطيرة لأنه سيؤدي الى رفع الاسعار بشكل كبير، ولا يمكن تحديد هذه الزيادة لأننا إلى الآن لا نعرف بكم سيسعّر ذلك الدولار الجمركي». وأضاف: «صحيح أن هناك سلعاً ستكون معفاة من الرسوم، لكن بمجرد أن ترتفع كلفة خدمات أو سلع أخرى ستنعكس بدورها على السلع والخدمات المتبقية»، ويوضح أنه «إذا تم فرض ضريبة على السيارة أو الدواليب فسترتفع كلفة النقل وأكلاف السلع الاخرى. وبالتالي لا يمكن للدولة أن تقول أن رفع الدولار الجمركي لن يؤثر على كل السلع، لأنه سيشمل سلعاً معينة ولكنه سيطال كل أكلاف المعيشة».
ويختم: «برأيي يجب على الدولة ان تبدأ بإجراءات لا تؤثر على إرتفاع الاسعار، منها الاملاك البحرية التي يمكن ان تؤمن ضرائب للخزينة أكثر من الدولار الجمركي، كما يمكن فرض ضرائب أيضاً على إستخدام الاوتوستراد والسفر وضريبة على الدخل المرتفع».
بحماية النافذين
على ضفة الخبراء الاقتصاديين، يشرح الخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي لـ»نداء الوطن» أن «التهرب الجمركي يتم بحماية من النافذين، ولا يمكن لأي تاجر عادي أن يعمد إلى تزوير بياناته والتواطؤ بشكل دائم إلا إذا كان محمياً. أما رفع الدولار الجمركي فلا يعني بالضرورة تعويم الموازنة وإلغاء العجز فيها». معتبراً أن «هذا كلام غير صحيح لأنه حتى إسميا، أجور اللبنانيين لا تزيد بنفس وتيرة إرتفاع الاكلاف، ونسب التضخم وكلفة المعيشة».
ويرى أن «هناك سباقاً بين تصحيح الأكلاف وبين إستقرار النقد. لأنه كلما تمّ التصحيح، نُصاب بعدم إستقرار النقد، وهذا ما يلغي مفهوم التصحيح». مشدداً على أن «المطلوب هو زيادة الاحتياطي في العملات الاجنبية، ورد ودائع الناس لتحقيق الاستقرار النقدي، لأن أزمتنا هي أزمة فقدان للدولار، وكل ما يحصل هو تسويف وضحك على الناس».
يعتبر يشوعي أن «زيادة الأجور للقطاع العام من دون إستقرار نقدي، يعني المزيد من ذوبان القدرة الشرائية بسبب إستمرار تدهور سعر صرف الليرة. وكل هذه الاجراءات لا فائدة منها. فالطبقة السياسية التي تنتهج هذا الاسلوب كأنها تضرب رأس الشعب اللبناني بالحائط»، لافتاً إلى أن «توهّم الطبقة الحاكمة بأن رفع الدولار الجمركي هو حل سحري لتمويل الخزينة، سيقلب السحر عليها». ويشير إلى أن «أزمة لبنان ليست أزمة ليرة، لأنه من الممكن الإستمرار بطبع العملة قدر ما نريد، وليس المهم أن نصحح إسمياً رواتب القطاع العام أو أكلاف أو أسعار، والاهم أن يكون التصحيح مفيداً ومجدياً».
سيتأثر المستهلك والتاجر الصغير
يؤكد إيلي يشوعي أنه «إذا أردنا زيادة مداخيل الخزينة وتخفيف العجز في الموازنة، يجب أن يكون لهذه المداخيل قيمة شرائية وليس فقدانها، بسبب الإنعكاس السلبي لهذا التصحيح على سعر صرف الليرة». مشدداً على أن «هذا الامر يحصل بفعل إزدياد الكتلة النقدية بالليرة في التداول وزيادة الطلب على الدولار في السوق الحقيقية والعرض لليرة. والدليل هو التعميم الاخير لحاكم مصرف لبنان الذي ينص على تقليص دعمه مؤخراً لاستيراد البنزين على سعر صيرفة من 85 إلى 70 بالمئة، و30 بالمئة على سعر السوق السوداء».
ويختم: «لن يتأثر المستورد برفع الدولار الجمركي لأنه يملك الدولار. وسيدفع الضرائب الجمركية على سعر 18 ألفاً مثلاً، بينما سيبيع بضائعه على سعر 32 ألف ليرة، ومن سيدفع الثمن هو التاجر الصغير الذي ستتراجع مبيعاته، والمواطن الذي سُرقت ودائعه وتراجعت قدرته الشرائية لأنه يتقاضى راتبه بالليرة اللبنانية».