هل نقول “وداعاً” لفساد المقاولات والمناقصات العامة؟

الإدارات مهترئة نتيجة سطو السياسيين عليها وتقاسمها حصصاً

تطبيق القانون على البلديات يحقق اللامركزية المنشودة… نسبياً

95% من العقود العمومية كانت بالتراضي واستدراج العروض

العلّية: لا تستهينوا بمشكلة نقص الموظفين، لا سيما في الفئة الثالثة

سنوات طوال قضاها مسؤولون وإداريون في التحايل على القانون لتحقيق الإثراء غير المشروع من المقاولات والمناقصات العامة ، يفترض مبدئياً أن تكون انتهت إلى غير رجعة مع بدء تطبيق قانون الشراء العام. إلا أن “النخبة” التي “تدوس الجميع من أجل مصالحها الخاصة، وترفها الزائد، ورفاهيتها في مرحلة تداعي الانظمة”، على حد تقدير إبن خلدون، لن تستسلم بسهولة. بل قد تستشرس للمحافظة على المكتسبات والافلات من العقاب. وهذه هي المعركة الحقيقية التي تخوضها اليوم ثلّة من رجال الدولة، في مواجهة غطرسة الخارجين عن القانون سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات عامة.

“عندما يأمن الموظف من العقاب سيقع في الفساد”، مثلٌ إذا ما أضفناه إلى القول المأثور “إن صلح القائد فمن يجرؤ على الفساد”، فسنتبين بسهولة أسباب تصنيف لبنان في المركز 154 من أصل 180 دولة على “مؤشر مدركات الفساد – 2021″، وحصوله على معدّل 24 على 100 على سلم الدول الأكثر فساداً. القولان وجدا الارض الخصبة في لبنان طوال السنوات الماضية. فالقادة اللبنانيون اتهموا من أعلى المرجعيات الدولية، بانتهاج مخطط بونزي الاحتيالي (Ponzi scheme)، واستخدام المالية العامة بعد الحرب كأداة لسيطرة ممنهجة على موارد البلاد، لخدمة مصالح نظام اقتصاد سياسي متجذِّر. في المقابل سهل غياب القوانين المحددة، ووجود ثغرات في تلك القائمة الافلات من العقاب. ولعل المثل الفاقع على ذلك عدم مرور إلا نحو 5 في المئة من الصفقات العمومية على إدارة المناقصات، وتنظيم 95 في المئة المتبقية بعقود التراضي واستدراج العروض في الوزارات، ومنها وزارة الطاقة، بقية المجالس والادارات بشكل عام.

كان الوضع مزرياً

فقد أظهر تقرير تحليل “عقود القطاع العام مع المتعهدين” الذي أعدته “مبادرة غربال”، بالتعاون مع “المؤسسة الاوروبية من أجل الديمقراطية” أنه على مدى عشرين عاماً، أي بين عامي 2001 و2020، أبرمت نحو 196 إدارة عامة أكثر من 17 ألف عقد بقيمة 13.5 مليار دولار. وبحسب ما كشفت الاحصاءات المستقاة من 44 إدارة تعاونت في إعطاء المعلومات، “أن النسبة الأكبر من العقود التي تمكنت المبادرة من معرفة نوعها تمت باتفاقيات بالتراضي، وبلغ مجموعها 4178 عقداً بقيمة 1.16 مليار دولار. تليها ادارة المناقصات حيث أبرم بواسطتها 1221 عقداً بقيمة 459 مليون دولار، ومن ثم استدراج العروض، حيث جرى عقد 1070 صفقة بقيمة 414 مليون دولار، علماً أن نوع العدد الأكبر من العقود لم يحدد في إجابات الإدارات وقد بلغت 10291 عقداً بقيمة 11 مليار دولار.

هذا الواقع الذي بيّن “سعي الادارات الحثيث للتفلت من رقابة إدارة المناقصات، ولتكريس نهج المحاصصة ومن ضمنها الصفقات طوال العشرين سنة الماضية”، بحسب مدير عام إدارة المناقصات سابقاً، ورئيس هيئة الشراء العام حالياً د. جان العلّية، يثير الخشية من استمرار تهرب الإدارات حتى مع دخول قانون الشراء العام الصارم حيز التنفيذ في 28 تموز الفائت. ومن المحاذير التي أثيرت حول الموضوع نذكر:

– التجاوب الخجول للجهات الشارية مع هيئة الشراء العام، ولا سيما لجهة الانخراط بالدورات التي ينظمها معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي. ذلك أنه بموجب القانون لا يمكن اختيار اعضاء لجان الاستلام والتلزيم من خارج لوائح المتدربين على القانون من قبل الجهات الشارية.

– دفع بعض الكتل النيابيّة باتجاه تعديل القانون 244/2021 قبل المباشرة بتنفيذه.

– الإدعاء برفض مصرف لبنان تطبيق القانون، وذلك على خلفيه ارساله كتاباً الى رئيس مجلس الوزراء يعتبر فيه أن قانون الشراء العام لا ينطبق عليه.

– عدم إرسال عدد كبير من البلديّات موظفيها وأعضاء مجالسها للتعرف على القانون والتدرّب عليه.

تذليل العقبات من أمام البلديات

أمام كل هذه “التحديات” المفترضة، ينطلق رئيس هيئة الشراء العام د. جان العلّيه في حديثه من أن المشكلة هي في واقع الادارات الصعب، وليس بافتراض وجود نية سلبية عند أي طرف للتفلت من القانون والتهرب من تطبيقه. ففي ما يتعلق بتنفيذ البلديات وبعض الإدارات العامة في الوزارات حيثيات القانون، وهو الموضوع الذي شغل المختصين المسؤولين والرأي العام، يعتبر العلية أن “مشكلة معظم البلديات، وجزء لا يستهان به من الادارات العامة تختصر بافتقارها إلى الموظفين من الفئة الثالثة، على الاقل. ذلك أن المادتين 100 و101 من القانون تفرضان على الجهات الخاضعة له تشكيل لجان تلزيم واستلام، تتألف كل واحدة منها من ثلاثة أعضاء من موظفي الفئة الثالثة. وبحسب العلّية جرى يوم الاربعاء الواقع فيه 10 آب 2022 إجتماع في وزارة الداخلية ضم إلى جانب الوزير بسام مولوي، ممثلين عن المديريات المعنية في البلديات، ومعهد باسل فليحان المالي والقوى الامنية الملحقة في وزارة الداخلية والبلديات. وجرى التفاهم على تعاطٍ مرن مع البلديات، ولكن من ضمن القانون وتطبيقه وليس باتخاذ أي عذر للخروج عنه. وعلى ضوء الاجتماع يتابع العلًية “أصدرت مذكرة لتسهيل تطبيق القانون على البلديات بما خص اللجان. بمعنى أن البلدية التي لا يوجد فيها موظف من الفئة الثالثة تستطيع الاستعانة بموظف من البلدية المجاورة لها أو أي إدارة أخرى من إدارات الدولة من ضمن لائحة الاستلام الموحدة الموضوعة من هيئة الشراء العام من قبل الجهات الشارية. وهذا يجوز وفقا لاحاكم المادة 100 التي تشترط أن يأتي واحد من اللجنة على الاقل من خارج الجهة الشارية”.

أما بالنسبة للمادة 101 الفقرة 3، المتعلقة بتشكيل لجان الاستلام فان “المشكلة أعمق من أن تحل بتعميم من هيئة الشراء العام”، بحسب العلّية. “ذلك أن لجنة الاستلام يجب أن تُشكل بكامل أعضائها من البلدية، أو الجهة الشارية. وعليه اقترحنا حل هذه العقبة بتدبير من وزير الداخلية بصفته وزير الوصاية على البلديات. حيث يجوز تكليف موظف أو أكثر في لجنة الاستلام من خارج البلدية على غرار لجنة التلزيم”. وبحسب العلية تجاوب الوزير مع المقترح على أن يكون قد صدر التعميم قبل أيام (الجمعة 19 آب). أو في الايام اللاحقة. وبرأي العلية فان أهمية تطبيق القانون على البلديات البالغ عددها 1050 بلدية يتعدى الشق المالي والقانوني إلى الشق التوعوي وإلى الحياة الديمقراطية وتعزيز الاستقلالية واللامركزية، واعطاء المواطن ضمن النطاق البلدي معلومات عن نشاط المجالس البلدية حتى يستطيع الاختيار بشكل شفاف. ويكون على بينة من نشاطها عند التجديد لمجالسها. والمطلوب فقط نقل المعلومات، التي باستطاعة أي موظف تزويد الهيئة بها لنشرها على الموقع الالكتروني. وإذا رأت الهيئة انحرافات وأخطاء، تتدخل عندها وتصدر تقارير إلى الجهات المعنية مباشرة وصولاً إلى المؤسسات الرقابية والنيابات العامة، وحتى إلى المجلس النيابي. وهذا ما يصب في صالح البلديات.

المشكلة في تفريغ الإدارات

إذن، المشكلة المتعلقة بتطبيق البلديات لقانون الشراء العام في طريقها إلى الحل، إن لم تكن قد حلت. والعوائق لم تكن في “القانون” إنما في “وضع الادارات المهترئ نتيجة سطو السياسيين عليها وتقاسمها حصصاً” يشدد العلّية. “إذ أن اعداد الموجودين في الادارات يقل عن أعداد من كانوا في الملاك في ستينات القرن المنصرم، ولا توجد إدارة لا تعاني من نقص في الموظفين من مختلف الفئات. ذلك مع العلم أن ثلث الانفاق العام يذهب رواتب واجوراً. والشغور في مراكز الفئة الثالثة تحديداً يجرى ملؤه بالتكليف من موظفي الفئة الرابعة”. ويصح برأيه في هذه الحالة “اعتماد الموظفين بالتكليف في اللجان لضرورات استمرارية المرفق العام”.

 

خطوة في مشوار الألف ميل

 

يؤكد جان العلية أن القوانين وضعت ليعمل بها وتطبق. وليس من مسؤولية هيئة الشراء العام تعديل القوانين إنما تطبيقها وتذليل كل العقبات التي تعترضها. فالقانون عصري سهل وشفاف وهو الخطوة الاولى في مشوار الالف ميل لمحاربة الفساد.

على كل حال انطلق تطبيق القانون، والتدريب إلزامي في معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي. إذ وصل عدد المدربين إلى نحو ألف والهدف هو 5 آلاف. ويفترض أن تنشر كل الجهات المعنية كل ما يتعلق بالمناقصات على موقع هيئة الشراء العام. قد يستغرق الأمر الكثير من الوقت لكن لبنان تحت المجهر الدولي، والقانون يطبق تحت أعين وكالة التنمية الفرنسية والبنك الدولي.

جهات كثيرة تعودت على الفوضى لم تكن مقتنعة بأن القانون سيطبق، فاذا بها تجد ان الأمر جدي ولا مفر منه، علماً بأن جهات مثل الجيش اللبناني أعطت المثل والنموذج وبادرت فوراً الى تطبيق القانون .

إخضاع مصرف لبنان

أما في ما يتعلق بخضوع مصرف لبنان لقانون الشراء العام من عدمه فيوضح جان العلّية أنه «فور وصول الكتاب المرسل من مصرف لبنان إلى دولة رئيس مجلس الوزراء الذي يطالب بتعديل القانون لان المصرف لديه خصوصياته. بادرنا إلى الرد على الكتاب ورفض مضمونه. وأكدنا أن لا مبرر لاعفاء مصرف لبنان من قانون الشراء العام. فخضوعه للقانون في ما يتعلق بعمله خارج إطار النقد والتسليف لا يتعارض مع استقلاليته. ونشر المعلومات والشفافية لا يحد من أي دور له. وارسلنا الجواب إلى رئاسة مجلس الوزراء بالتوازي مع أرسال كتاب مباشر لحاكمية مصرف لبنان نص مضمونه على خضوع مصرف لبنان لقانون الشراء العام عندما يكون هناك عمليات من خارج إصدار النقد وطبع العملة بموجب المادة 3 فقرة 6. وطالبناه بايداع هيئة الشراء العام كل المعلومات عن العمليات التي يقوم بها، اعتباراً من تاريخ 29 تموز 2022. وفي اليوم ذاته تم التواصل معنا من مديريتي الشؤون القانونية والمشتريات في مصرف لبنان. وقد أكدوا خضوع «المركزي» لتطبيق القانون. وبدأوا بالفعل بارسال المعلومات عن الصفقات ويتم التعاطي معها ودراستها وتقديم الايضاحات المطلوبة. وبحسب العلّية فان هيئة الشراء العام تؤكد خضوع مصرف لبنان مثله مثل أي جهة شارية أخرى لقانون الشراء العام، وعندما لا يفعل تتخذ بحقه الاجراءات التي تتخذ بحق أي إدارة خاضعة للقانون. كما سيخضع موظفوه للتدريب في معهد باسل فليحان.

مصدرنداء الوطن - خالد أبو شقرا
المادة السابقةماذا بعد الدولار الجمركي؟
المقالة القادمةقرار رفع الدولار الجمركي “والسياسات الخاطئة التي أفقرت وجوّعت الناس”: هل من حلول؟