بدأت بعثة صندوق النقد الموسّعة جولتها في بيروت، في زيارة يُفترض أن تشمل مرجعيّات سياسيّة ومسؤولين ماليين ومصرفيين. وحسب المصادر المواكبة للزيارة، ستتركّز مهمّة البعثة على تقييم تقدّم لبنان في تنفيذ شروط التفاهم المعقود على مستوى الموظّفين، بين لبنان والصندوق، في محاولة لدفع لبنان باتجاه استكمال سلسلة الإجراءات التصحيحيّة المطلوبة منه للخروج من الأزمة. مع الإشارة إلى أنّ صندوق النقد اشترط تنفيذ هذه الشروط ضمن التفاهم المبدئي، قبل انتقال لبنان لتوقيع اتفاق نهائي على برنامج قرض متكامل مع الصندوق.
بجردة سريعة للشروط الثمانية التي وردت في التفاهم، يبدو من الواضح أن بعثة الصندوق ستصل إلى خلاصة واحدة خلال زيارتها: لم ينفّذ لبنان حتّى اللحظة أي شرط من هذه الشروط، بل لا يوجد ما يوحي أن المنظومة السياسيّة تملك حتّى النيّة الجديّة بتنفيذها. ولذلك، من المرتقب أن تنتهي الزيارة الراهنة تمامًا كما انتهت جميع زيارات بعثات الصندوق السابقة، أي بالعودة إلى نقطة الصفر، طالما أن ثمّة مصالح واضحة تعيق المضي بأي من مسارات الحل التي يطرحها الصندوق.
وتجدر الإشارة إلى أن التفاهم المبدئي الذي تم توقيعه منذ خمسة أشهر، نصّ على تحقيق الشروط الثمانية قبل اجتماع مجلس مديري الصندوق المقبل، الذي يفترض أن ينعقد في مطلع تشرين الأوّل. وبذلك، يصبح من الأكيد أنّ لبنان قد ضيّع على نفسه فرصة المصادقة على برنامج القرض في هذا الاجتماع، طالما أن المهلة المتبقية (نحو أسبوعين) لن تكون كافية حتمًا لتنفيذ هذه الشروط.
وفي جميع الحالات، يمكن تلخيص وضعيّة لبنان حيال كل شرط من الشروط الثمانية على النحو التالي:
1- القانون الطارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي
يمثّل هذا القانون الإطار التشريعي الذي يحدد صلاحيّات كل من الهيئة المصرفيّة العليا، وحاكميّة مصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف، وغيرها من الجهات الرقابيّة والتنظيميّة، في إطار عمليّة إعادة الهيكلة. كما يفترض أن يحدد القانون المعايير التي سيتم على أساسها حلّ المصارف غير القادرة على الاستمرار بالعمل، وتنظيم عمليّات الدمج والاستحواذ وإعادة الرسملة للمصارف التي ستبقى في السوق. ولذلك، لا يمكن توقّع البدء بتنفيذ مسار إعادة الهيكلة، ولا معالجة الخسائر، من دون تمرير هذا القانون في مجلس النوّاب.
لم تبدأ الحكومة بمناقشة أي مسودّة لمشروع القانون، الذي يُفترض أن يتم إرساله -بعد إقراره في مجلس الوزراء- إلى مجلس النوّاب للمناقشة والمصادقة. آخر الأخبار تحدّثت عن إعداد “مسودّة” مبدئيّة لمشروع القانون هذا في لجنة الرقابة على المصارف، إلا أنّ اللجنة قرّرت لاحقًا إعادة العمل على مسودّة جديدة من الصفر، ما يوحي بوجود عراقيل متعمّدة تحول دون البدء بتنفيذ هذا الشرط. مع الإشارة إلى أنّ حساسيّة هذا القانون تكمن في اتصاله بمسألة رساميل وأسهم المصارف، التي تركّزت حولها جميع السجالات منذ أواخر العام 2019، بل والتي لأجلها عرقلت النخبتان السياسيّة والماليّة أي محاولة للمضي بمسار إعادة هيكلة القطاع، ما يفسّر عرقلة العمل على هذا القانون اليوم.
2- الاستراتيجيّة الحكوميّة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي
بعد إقرار القانون الطارئ، الذي يحدد الإطار التشريعي لإعادة الهيكلة، يُفترض أن تحدد الحكومة خريطة الطريق التنفيذيّة من خلال هذه الاستراتيجيّة، التي يجب أن تحدد -حسب التفاهم المبدئي- حجم خسائر القطاع وخطوات المعالجة القادرة على تحييد أصحاب الودائع الصغيرة. لم يتم إنجاز استراتيجيّة متكاملة لهذه الغاية بعد، بل اقتصر عمل الحكومة على مذكّر عموميّة وفضفاضة “للنهوض بالقطاع المالي”. ولعلّ عرقلة تنفيذ هذا الشرط، تتصل بتأخّر إقرار الإطار التشريعي أولًا، أي قانون إعادة الهيكلة. وبتأخر تنفيذ خطوات أخرى، لا يمكن وضع استراتيجيّة إعادة الهيكلة من دون إنجازها، كتدقيق ميزانيّات المصارف ومصرف لبنان.
3- تدقيق ميزانيّات أكبر 14 مصرفًا
من المفترض أن يتم هذا التدقيق من خلال شركات أجنبيّة ذات مصداقيّة، للوقوف عند وضعيّة المصارف الماليّة قبل إعادة الهيكلة. لم يبدأ التدقيق بعد، ويتم التحجّج حاليًّا -لعرقلة تنفيذ الشرط- بتأخّر وضع عقود التدقيق مع المؤسسات الأجنبيّة. ولعل خشية المصارف من مسألة تحديد الخسائر الموجودة في كل مصرف على حدة، وتمييز المصارف المتعثّرة وغير القادرة على الاستمرار، هو ما يحول دون تنفيذ هذا الشرط.
4- تدقيق ميزانيّة مصرف لبنان
لا يرتبط هذا المسار بالتدقيق الجنائي، بل بتدقيق محاسبي لتحديد وضعيّة احتياطات مصرف لبنان الحاليّة. تشير المعلومات إلى أنّ شركة التدقيق لم تنجز تدقيق أرقام العام الحالي، ما يفقدها القدرة على تقييم سيولة وملاءة مصرف لبنان في الوقت الراهن. وبغياب هذا التدقيق، سيتعذّر حكمًا المضي بأي عمليّة متكاملة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي. ويبدو من الواضح أن عرقلة تنفيذ هذا الشرط تتصل بشكل وثيق بنوعيّة الخسائر التي أخفاها مصرف لبنان طوال الفترة الماضية، بمخالفات فاقعة لمعايير الإفصاح المالي.
5- استراتيجيّة متوسطة الأجل لإعادة هيكلة ماليّة الدولة ودينها العام
لم تعمل الحكومة على أي استراتيجيّة من هذا النوع، بل لم تبدأ حتّى بمفاوضة الدائنين الأجانب أو المحليين، ولا يوجد ما يوحي باتجاهها نحو إطلاق هذا المسار قريبًا.
6- تعديل قانون سريّة المصارف
عمل المجلس النيابي على إقرار هذه التعديلات، إنما بصيغة مفخّخة لم تعطِ لجنة الرقابة على المصارف صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة، ولم تحدد آليّات رفع السريّة المصرفيّة من قبل القضاء. ولهذا السبب، أبدى صندوق النقد تحفّظه على هذه الصيغة، ما دفع رئيس الجمهوريّة لرد القانون إلى مجلس النواب. باختصار، لم يتم تنفيذ هذا الشرط، لأسباب متصلة بمصالح المصارف أولًا، وبخشية النافذين من تداعيات رفع السريّة عن حساباتهم المصرفيّة من قبل القضاء ثانيًا.
7- توحيد أسعار الصرف
لم يبدأ العمل بأي مسار يفضي إلى توحيد أسعار الصرف. بل حتّى منصّة مصرف لبنان، التي كان من المفترض أن تُنتج سعر الصرف العائم والموحّد، استقالت من مهمّة تأمين الدولارات لمستوردي البنزين، فيما بدأت الفروع المصرفيّة بتقليص كميّات الدولارات المباعة عبرها. بمعنى آخر، لم يتقاعس فقط لبنان عن تنفيذ الشرط، بل ابتعد أكثر عن مسار تنفيذه.
8- المصادقة على ميزانيّة 2022
مشروع قانون الموازنة بات أبعد بكثير عن رؤية صندوق النقد لإدارة الماليّة العامّة، بعدما تم اعتماد سيناريوهات عبثيّة لسعر الصرف المعتمد لاحتساب الرسوم والضرائب، في تكريس لظاهرة تعدد وفوضى أسعار الصرف. لكن في جميع الحالات، لم تتم المصادقة على الموازنة أصلًا، بعدما فقد المجلس نصابه في آخر الجلسات المخصصة لمناقشتها.
في خلاصة الأمر، تعثّر لبنان بتنفيذ جميع الشروط بلا أي استثناء، ولأسباب اتصلت جميعها بمصالح واضحة العنوان والوجهة. وبالنظر إلى طبيعة المصالح المتصلة بالعرقلة، من المتوقّع أن تستمر العراقيل نفسها بالحؤول دون تنفيذ الشروط الثمانية خلال الفترة المقبلة. وحتّى إذا توفّرت الإرادة لتنفيذ هذه الشروط، وهذا مستبعد، من غير الممكن أن يُنجز لبنان خطوات بهذا الحجم خلال الأيام القليلة المقبلة، أي قبل اجتماع مجلس مدراء صندوق النقد الدولي.