كذّبت الأسواق الداخلية والخارجية سريعاً “المنجّمين” المبشّرين بانتهاء المشاكل الاقتصادية، بمجرد التوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية؛ و”لو صدقوا”. فعدا عن كون الثروات الطبيعية تزيد المآسي في الدول الفاشلة المسيطر عليها من الطبقة الاوليغارشية، فان تجذر المشاكل والفساد في لبنان أفقد الترسيم أي انعكاس إيجابي. فمقابل النشوة بـ”حمى النفط والغاز” التي سيطرت في اليومين الماضيين على الاجواء الداخلية، هوت أسعار السندات اللبنانية بالعملات الاجنبية “يوروبوندز” إلى أدنى مستويات لها على الاطلاق. مسجلة 6 سنتات لكل دولار. في حين قارع سعر صرف الدولار مقابل الليرة في الاسواق المحلية عتبة الـ 40 ألفاً.
من الواضح أن المؤشرات الاقتصادية والنقدية أصبحت أثقل بما لا يقاس من الاخبار الايجابية على ميزان سعر الصرف. فالكتلة النقدية بالليرة اللبنانية M1 ارتفعت في النصف الاول من شهر أيلول الفائت بمقدار 1700 مليار ليرة، لتصل إلى 45 ألف مليار. وهو ما يعني زيادة الطلب على الدولار، وبالتالي ارتفاع سعره. كما أن حجم التوظيفات الالزامية تدنى عن 8 مليارات دولار، مفقداً مصرف لبنان القدرة على السحب منها بمبالغ كبيرة للسيطرة على انهيار الليرة. فيما يؤدي طلب المركزي من جهة أخرى على الدولار من السوق الموازية لتلبية متطلبات الدولة والمصارف إلى المزيد من طباعة الليرات، وبالتالي زيادة الطلب على الدولار وتعميق انهيار الليرة. هذا عدا عن النتائج السلبية لاقفال المصارف، وتراجع الحركة السياحية، وزيادة المتطلبات المالية التي فرضتها الدولة في موازنة 2022 المقرة مؤخراً.
على الصعيد الدولي، بقيت توقعات حملة سندات الدين الاجنبية “يوروبوندز” متشائمة رغم الترسيم، “حيث استمر المسار التنازلي الذي يسيطر على أسعار هذه السندات منذ أشهر. وقد بلغ مؤخراً الحد الادنى على الاطلاق. حيث جرى التداول بها على أساس 6 سنتات للدولار”، يقول المستثمر في الاسواق الناشئة صائب الزين، “الامر الذي يمثل انعكاساً واضحاً لفقدان اللبنانيين والمستثمرين الاجانب الثقة بصانعي السياسات اللبنانيين”. فرغم مرور عامين وثمانية أشهر على إعلان لبنان تخلفه عن سداد “اليوروبوندز”، البالغة قيمتها حوالى 31.3 مليار دولار، فان المفاوضات على إعادة الهيكلة ما زالت معلقة. وباستثناء الاجتماع اليتيم الفاشل الذي حصل مع الدائنين في 5 أيار من هذا العام، فان لا شيء يدل لغاية الآن على إمكانية التزام لبنان بجدولة هذا الدين وتنظيم الدفعات، خصوصاً أن حصة الاجانب من هذا الدين تبلغ نحو 17 مليار دولار وتشكل ما نسبته 55 في المئة من مجمل الرقم. في حين تحمل المصارف اللبنانية حوالى 9.5 مليارات دولار ومصرف لبنان 5 مليارات.
إنعدام مرونة الاسواق الداخلية والخارجية تجاه احتمال تحول لبنان إلى دولة نفطية “يعود أولاً إلى أن الانتاج يتطلب سنوات طوالاً”، يقول الزين. ثانياً، فان التجربة علمتنا أن واقع الخلافات السياسية، وطغيان المصالح الشخصية الضيقة عند أصحاب القرار يتسبّبان بفشل كل ما فيه خير للبنان. وهذا من المتوقع أن ينسحب أيضاً على موضوع الاستفادة الطويلة الامد من العائدات النفطية. فالهم الاساسي اليوم محصور بانتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة قادرة على وضع حد سريع للمشاكل المتفاقمة، وتنفيذ الاصلاحات والدخول في اتفاق سريع مع صندوق النقد الدولي لفرملة الانهيار. وهي متطلبات مسبقة لا تساعد على تجاوز المرحلة فحسب، إنما تعطي الثقة بامكانية ادارة الدولة في المستقبل لملفي النفط والغاز في حال تواجدهما.