هبط التعميم الوسيط رقم 646 الصادر عن مصرف لبنان في 12 الجاري، بشكل مفاجئ من دون مناسبة، فلا هو شرط مسبق لصندوق النقد الدولي، ولا هو يعطي أيّ بصيص أمل آخر للخروج من الأزمة. فما الذي دفع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى إصداره؟
يفتح التعميم الباب على مصراعيه للسداد المسبق للقروض السكنية، وفئتين أخريين من القروض (الجمعية والبيئية)، بعملة القرض، من دون الحاجة إلى الموافقة المسبقة من مصرف لبنان، ومن دون تحميل العميل أيّة غرامة نتيجة السداد المسبق قبل مرور سبع سنوات على وضع القرض موضع التنفيذ.
شبهة تبديد وتهريب لِما تبقّى من أصول القطاع المصرفي
السداد المبكر للقروض، سواء كان بالدولار أم بالليرة، هو منحة مبطّنة للمقترضين، لأنّه يعني حسماً بنسبة 96% من قيمة القرض مقارنة بالقيمة التي سيصل إليها فيما لو تمّ تعويم سعر الصرف الرسمي. فالقروض بالدولار تُسدّد منذ ثلاث سنوات من خلال تجارة الشيكات المشبوهة، أو من خلال السداد بالليرة على سعر الصرف الرسمي. وأمّا القروض بالليرة فتنصّ عقودها على إعادة تقييمها في حال تغيّر سعر الصرف الرسمي. وما يكسبه المقترضون لا يتحمّله مصرف لبنان ولا أصحاب البنوك ولا الدولة، بل هو مزيد من الهدم الممنهج لملاءة البنوك، الذي يعني أوّلاً وآخراً تلاشي أيّ أمل بإعادة شيء من أموال المودعين. وليس الأمر سوء تدبير غير مقصود، بل فيه شبهة تبديد وتهريب لِما تبقّى من أصول القطاع المصرفي.
اختار معظم البنوك من اليوم الأوّل للأزمة أن تقبل سداد القروض على سعر الصرف الرسمي مقابل تواطؤ الدولة ومصرف لبنان في تغطية الموبقات التي جرت في القطاع المصرفي، ومنها:
1- عمليات تهريب أموال معلنة موّلها مصرف لبنان بتسهيلات بلغت تسعة مليارات دولار في عام 2020 وحده، في ظلّ تعطيل متعمّد لإقرار قانون الكابيتال كونترول.
2- في غياب أيّ تطبيق لقواعد الحوكمة التي تقتضي الفصل بين الملكيّة والإدارة في البنوك، تمكّن العديد من ملّاكها من الالتفاف بسهولة على تعميم منع توزيع الأرباح الصادر أواخر عام 2019، فتمّ سحب النقد من البنوك على شكل مصاريف (expenses) من خلال تعاقدات مع شركات مرتبطة بملّاكها.
3- رعت البنوك تجارة الشيكات بحسم أخذ بالتصاعد حتى اقترب من 90% هذه الأيام، بهدف التخلّص من أكبر قدر ممكن من الودائع قبل أن تحين ساعة إعادة الهيكلة.
حلقة أخرى من الفساد
كانت القروض في بداية الأزمة تقارب 40 مليار دولار، ولم يتبقَّ منها اليوم سوى 12 مليار دولار، وتمكّن البنوك في المقابل من تصفية نحو 40 مليار دولار من قاعدة الودائع، أكثر من ربعها كان عبارة عن تهريب أموال للمحظيّين، فيما تمّت تصفية أجزاء أخرى من خلال عمليّات الليلرة أو السحوبات بهيركت قاسٍ نظّمته تعاميم مصرف لبنان.
ما يجري اليوم حلقة أخرى من الفساد في القروض السكنية بشكل خاص، وفي مجمل ملفّ حماية أصول القطاع المصرفي. فأبجديّات الرقابة على القطاع المصرفي تقتضي، عند وقوع أيّة أزمة هيكلية من النوع الذي عصف بلبنان، أن تضع الرقابة يدها على أصول القطاع لحمايته من التهريب والتسريب، لتحفظ حقّ الدائنين والمودعين في البنوك. وهذا عكس ما حصل على مدى السنوات الثلاث الماضية.
ويبدو أنّ هناك من يضرب ضربته اليوم قبل بتّ شروط صندوق النقد الدولي، الذي طلب بنصّ واضح تقييم أصول أكبر 14 بنكاً في البلاد، ووضع خطّة لإعادة هيكلة البنوك.
صمت وتساهل .. والخسائر على المودعين
ليس سرّاً أنّ كثيراً من ملّاك البنوك رتّبوا أوضاعهم وهرّبوا ما تيسّر لهم من الأصول، ولم يعُد يضرّهم كثيراً بعد اليوم أن يُحكم على مؤسّساتهم بالإفلاس، بل سيقع الضرر كلّه على أصحاب الودائع. وربّما هذا يفسّر الصمت والتساهل في تصفية موجودات البنوك من القروض السكنية بأبخس من قيمتها.
أمّا فساد القروض السكنية فقصّة لا تقلّ فظاعة. يقول رئيس مجلس الإدارة المدير العامّ للمؤسّسة العامّة للإسكان روني لحود في تصريح لصحيفة “الأخبار” إنّ “هناك 8 آلاف مقترض من المؤسّسة العامّة للإسكان أنهوا التسديد دفعة واحدة في السنتين الماضيتين، و15 ألف مقترض يقومون بذلك اليوم”، مستفيدين من الفجوة الهائلة بين سعر الصرف الرسمي (الفاسد) وسعر الصرف الحقيقي الذي تحدّده السوق الموازية. ولا حاجة إلى القول إنّ كثيرين من المقترضين مغتربون يرسلون أموالهم بالدولار من الخارج ويحوّلونها إلى الليرة لسداد قروضهم بأربعة في المئة من قيمتها، فيما تقع الخسارة على المال العامّ.
وبدلاً من فعل شيء لوقف هذه الخسارة، يستمرّ الفساد من خلال العودة إلى فتح باب الإقراض من مصرف الإسكان بالليرة بفائدة 5%. ومن أين يأتي التمويل؟ من قرض لم يصل بعد من الصندوق الكويتي للتنمية بقيمة 50 مليون دينار كويتي. أي أنّ الدولة اللبنانية تقترض بعملة أجنبية وتُقرض بالعملة المحليّة التي لا يُستبعد أن تفقد 50% أو 70% أو 90% من قيمتها خلال السنوات المقبلة، ليعود المقترضون للسداد المبكر بالليرة بعد سنوات قليلة، فيما تستمرّ الدولة بالسداد للصندوق الكويتي بالعملة الصعبة، وتتحمّل الخسارة. والسؤال البديهي: من هم أولئك المحظيّون الذين يحصلون على القروض؟ وبأيّة واسطة؟ ومن يراقب نزاهة إجراءات فحص الطلبات وقبولها؟
لا تُدار الأزمة بما يشير إلى أنّ هناك من يبحث عن مخرج من النفق، بل بما يشي بأنّ هناك من يستحوذ على ما تصل إليه يده قبل أن تقع الواقعة.