كشفت مصادر وزارية وسياسية أن لبنان تراجع عن خطط لخفض سعر الصرف الرسمي لليرة، القائم منذ ربع قرن، بسعر أقرب إلى المتداول في السوق وسط مخاوف من رد فعل المواطنين الغاضبين أصلا من التلكؤ في معالجة أسوأ أزمة مالية يعيشها البلد.
وقال مصدر بوزارة المالية لرويترز الخميس إن “الخلافات السياسية أوقفت الخطوة”، وإنه “لا أحد في البلاد يريد تحمل مسؤوليتها”.
وينظر المسؤولون إلى الموافقة على سعر صرف أعلى للدولار على أنها خطوة لن تحظى بشعبية في الدولة التي تعتمد بشدة على الاستيراد لأنها ستقضي تماما على كل مظاهر الحياة الاقتصادية.
وأضاف المصدر، الذي لم تكشف وكالة الأنباء عن هويته، أن “رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي غير مستعد لإعطاء الضوء الأخضر لخطة تغيير سعر صرف الليرة حتى موافقة جماعة حزب الله وحركة أمل الشيعيتين القويتين عليها”.
وأكد مصدر من مكتب ميقاتي إحجام رئيس الوزراء عن التحرك دون موافقة القوتين. وقال مصدر من إحدى الجماعتين لرويترز “سيكون من الصعب تنفيذ ذلك الآن”.
ولا يبدو أن الخلافات السياسية وحدها التي تقف أمام القيام بأي خطط إصلاحية طال انتظارها للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة ثلاثة مليارات دولار، وإنما الجانب الأكبر له علاقة باستقرار السوق المحلية حتى مع وضعها السيء.
وقال نسيب غبريل، كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس لرويترز إن “الاعتبارات السياسية هي المهيمنة، هذه حقيقة، والتكلفة هي تأخير الإصلاحات”.
وأشار إلى أن السعر الجديد ستكون له آثار “بعيدة المدى” على الاقتصاد وينبغي تنسيقه مع البنك المركزي وصندوق النقد الدولي.
وبحسب غبريل سيطال التأثير الميزانيات العمومية للبنوك وعملية إعادة الرسملة وسداد القروض والقطاع الخاص والمواطنين، إضافة إلى تأثيره على التضخم والأسعار.
وفي أبريل الماضي، اتفق لبنان مع صندوق النقد على قائمة إصلاحات يتعين تنفيذها من أجل الحصول على حزمة إنقاذ، بما في ذلك توحيد سعر الصرف.
ودعا اتفاق على مستوى الخبراء بين الطرفين حينها السلطات اللبنانية إلى زيادة الإيرادات لتمويل القطاع العام المعطل، والسماح بالمزيد من الإنفاق الاجتماعي من خلال احتساب الضرائب الجمركية “بسعر صرف موحد”.
لكن البرلمان أقر ميزانية تحسب إيرادات الضرائب الجمركية عند 15 ألف ليرة للدولار، بينما كان يبلغ سعر صرف العملة المحلية في السوق الموازية نحو 37 ألف ليرة للدولار.
وربط الكثير من المحللين الإقدام على الخطوة بمدى قدرة الحكومة على التجاوب مع الارتدادات التي قد تزيد من تعميق أزمات الاقتصاد المنهار وتضاعف معاناة اللبنانيين، في ظل شلل نشاط رجال الأعمال وعدم قدرتهم على سحب ودائعهم، والأهم التضخم القاسي.
ويقولون إن ذلك سيكون بعض النظر عن الصراعات السياسية أو مدى إدراك المسؤولين للورطة، ومأزق توحيد سعر الصرف في السوقين الرسمية والموازية الذي سيضيق أفق الإصلاحات المنتظرة.
وكان وزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف خليل قد قال أواخر سبتمبر الماضي إن “الدولة اعتمدت سعر صرف قدره 15 ألف ليرة مقابل الدولار بدلا من 1507”.
ووصف ذلك بأنها “خطوة نحو توحيد أسعار الصرف المختلفة التي ظهرت منذ دخول البلاد في أزمة اقتصادية عام 2019”.
وقال خليل في البداية إن “القرار سيدخل حيز التنفيذ في الأول من نوفمبر 2022″، لكن وزارته قالت في وقت لاحق إن “ذلك سيعتمد على موافقة البرلمان على خطة التعافي المالي”، وهو ما لم يحدث بعد.
وجاءت الخطوة التي قال خليل إنه توصل إليها “بالاتفاق مع محافظ مصرف لبنان المركزي رياض سلامة” كعلامة فارقة في الانهيار الذي اجتاح لبنان منذ عام 2019 وأسقط قطاعات كبيرة من السكان في الفقر في أسوأ أزمة منذ الحرب الأهلية.
وتطبق السلطات النقدية سعرا ثابتا لصرف الدولار منذ العام 1997، لكن مع اشتداد أزمة شح الدولار وتبخر الاحتياطات النقدية لم تجد بيروت بدا من دخول مغامرة خفض “مقنع” للعملة المحلية والتي تبدو محفوفة بالمخاطر.
وبالإضافة إلى أسعار الصرف الرسمية والموازية في السوق، أوجدت السلطات العديد من الأسعار الأخرى خلال الأزمة، ومنها أسعار غير ملائمة طُبقت على السحب بالليرة من الودائع بالعملة الصعبة في النظام المصرفي المجمد.
ورغم محاولات مصرف لبنان المركزي لتطويق المشكلة على مدار أشهر، إلا أن الليرة تراجعت بأكثر من 95 في المئة من السعر الرسمي منذ سقط البلد في خضم أزمة مالية قبل ثلاث سنوات، ويجري تداولها ما بين 38 و40 ألف ليرة في السوق السوداء.
وجرى الخميس تداول الليرة في السوق الموازية بسعر 37.5 ألف ليرة مقابل الدولار، وعلى منصة صيرة التابعة للبنك المركزي عند 30.1 ألف ليرة، بينما لا يزال السعر الرسمي عند 1507 ليرات.
وانزلق لبنان في واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية التي واجهتها أي دولة خلال القرنين الماضيين من أكتوبر 2019، ولكن الأزمة الصحية في العامين الماضين، ثم الحرب في أوكرانيا زادت الطين بلة، حتى بات الفقراء يشكلون أكثر من 80 في المئة من السكان.
وتسود حالة من التشاؤم بين اللبنانيين من السقوط في حفرة أزمات أعمق حيث يدفع انحدار قيمة الليرة أسعار جميع السلع في الأسواق إلى الارتفاع بشكل أكبر.
وتعاني كافة مناطق البلاد من ارتفاع كبير في معدل التضخم، وسط تدني دخل ورواتب المواطنين، بل واضطر الكثيرون منهم إلى الاعتماد على التحويلات الخارجية من ذويهم أكثر مما كان عليه الأمر في السابق.
ويواجه لبنان وضعا غير مسبوق يتمثل في وجود حكومة تصريف أعمال بصلاحيات محدودة مع شغور منصب الرئيس مما يعيق أي تقدم لمعالجة الخراب المالي والاقتصادي.