قبل عشرة أيام من نهاية عهد ميشال عون، تنازلت الدولة اللبنانية عن الحصة التي آلت إليها في اتفاقية التنقيب بالبلوكين 4 و9 البحريَّين لشركة تابعة لـ “توتال إنرجيز” الفرنسية، بلا إعلان أو شرح أو تبرير. فهل من صفقة وراء القرار؟
تأكّد الخبر يوم الثلاثاء الماضي ببيان صحافي أصدرته “توتال” أعلنت فيه التوصّل مع شريكتها الإيطالية “إيني” إلى اتفاق إطاريّ مع إسرائيل لتطبيق اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، الموقّعة في 27 تشرين الأول. في هذا البيان كانت المفاجأة إعلان “توتال” من طرف واحد أنّها باتت تملك 60% من المصالح في رقعة التنقيب اللبنانية، أي البلوك رقم 9 ومن ضمنه حقل قانا، مقابل 40% لشركة “إيني” الإيطالية، وهو ما يعني أنّ حصة الـ20% التي تنازلت عنها “نوفاتك” الروسية آلت إلى الشركة الفرنسية. المفاجئ في الأمر أنّ الشركة الروسية تنازلت عن حصّتها للدولة اللبنانية، وليس لشركة “توتال”. وقد أصدر وزير الطاقة في حكومة تصريف الأعمال وليد فياض قراراً بتنفيذ هذا التنازل بتاريخ 19 أيلول الماضي.
في الأسابيع التالية، كان واضحاً أنّ قطر مهتمّة بالحصول على شيء من الامتياز بدلاً من “نوفاتك”. وتأكّد الأمر في رسالة وجّهها وزير الدولة القطري لشؤون الطاقة سعد الكعبي إلى لبنان يطلب فيها الاستحواذ على حصّة، مع “شرط مبدئي” هو زيادتها إلى 30%، من خلال شراء 5% من كلّ من “توتال” و”إيني”.
ما حصل بعد ذلك أنّ “توتال” اعترضت على تنازل الدولة اللبنانية عن الحصة مباشرة للقطريّين، وطلبت أن يتمّ التنازل لها، ثمّ تتولّى بنفسها التفاوض معهم أو مع سواهم. واستخدمت “توتال” أكثر من ورقة ضغط، إحداها دورها في اتفاقية ترسيم الحدود البحرية. لكن كانت الورقة الأهمّ أنّ “توتال” لم تكن قد وقّعت تجديد اتفاقية التنقيب، على الرغم من أنّ الحكومة اللبنانية أقرّته في أيار الماضي. وكانت الاتفاقية السابقة على وشك الانتهاء في 22 تشرين الأول.
لبنان بين الشركات وإسرائيل
قبل يوم واحد من انتهاء الاتفاقية، وافقت حكومة تصريف الأعمال على نقل حصّة “توتال” وحصّة “نوفاتك” إلى شركتين شكليّتين اسمهما “دجا 215” و”دجا 216″، من دون الإعلان أنّ الشركتين مملوكتان بالكامل لـ “توتال”. وصدر بعد أيام قليلة خبر في وكالة “رويترز”، منسوب إلى مصادر لبنانية، يؤكّد تبعيّة الشركتين لـ”توتال”، وأنّ نقل حصّة “نوفاتك” يندرج ضمن تفاهم تقوم بموجبه الشركة الفرنسية بالتفاوض مع القطريين! وهنا يُطرح السؤال عن مسوّغ تنازل الدولة اللبنانية عن الحصّة وعن حقّها في التفاوض مع القطريين.
أوضحت مصادر رسمية لبنانية لـ”أساس” أنّ تحويل حصّة “نوفاتك” إلى “توتال” هو إجراء مؤقّت لثلاثة أشهر فقط، وأنّ “توتال” ملتزمة بتحويلها حكماً بعد تلك المدّة إلى قطر مع نسبة 5% إضافية من حصّة “توتال” و5% من حصّة شركة “إيني”، “وفي حال أخلّت “توتال” بتعهّدها للدولة وامتنعت عن تحويل الأسهم المتّفق عليها إلى القطريين تتحوّل الأسهم حكماً إلى الدولة اللبنانية التي يحقّ لها منحها إلى شركة أخرى، بسبب صعوبة أن يقوم لبنان بهذا الاستثمار مباشرة، وعجزه عن تغطية كلفة مثل هذا العمل التي تزيد على عشرات ملايين الدولارات”.
إلى ذلك أكّدت مصادر أخرى أنّ “توتال” لم تتعهّد بتحويل الحصة إلى القطريين، بل وعدت بالتفاوض خلال ثلاثة أشهر مع مشغّل دولي، قد يكون “قطر إنرجي” أو سواها. لكن ما يستحقّ التوقّف عنده أنّها لم تأتِ على ذكر هذا الأمر في بيانها الأخير، بل أشارت إلى ملكية الستّين في المئة كما لو أنّها وضع دائم، لا على سبيل الأمانة أو الإجراء المؤقّت. وسواء كان تنازل الدولة اللبنانية لـ”توتال” إجراء مؤقّتاً أم دائماً، فإنّه ينطوي على قرار سياسي بإعطاء ورقة للفرنسيين على حساب القطريين. فمن له مصلحة في ذلك؟
من المعروف أنّ رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل كان الأشدّ حماسةً لدخول القطريين مكان الروس، خصوصاً أنّ علاقته بالدوحة توطّدت كثيراً في السنوات الأخيرة، وخرجت إلى العلن من خلال تمويل بعض المشاريع في أماكن نفوذه. ويُعطَف على ذلك سوء علاقته بالفرنسيين، وبالرئيس إيمانويل ماكرون تحديداً، لدرجة أنّ باسيل أقرّ في مقابلة تلفزيونية بأنّ ماكرون نعته بالفاسد.
يمكن فهم أن يمرّر رئيس حكومة تصريف الأعمال قرار نقل الحصة للشركة الفرنسية، بحكم علاقته الوثيقة مع باريس، لكن كيف مرّت في بعبدا؟ وبأيّ مقابل؟ تتساءل مصادر سياسية: هل كان باسيل يحاول مدّ حبائل الودّ لباريس ربطاً بالملف الرئاسي، أم في التيار العوني صالون آخر أكمل ما بدأه في اتفاق الترسيم؟
وضعت المصادر نفسها تحويل حصة “نوفاتك” إلى “توتال” في سياق مختلف، إذ أشارت إلى أنّ قرار التحويل اتُّخذ عندما أصبح اتفاق ترسيم الحدود البحرية الجنوبية ناجزاً، وقبل أسبوع من التوقيع عليه رسمياً. وقد كان تحويل الحصة جزءاً من الترتيبات التي انخرطت فيها “توتال” مع “إسرائيل”، إذ كان لا بدّ أن تخرج الدولة اللبنانية من ملكية الامتياز لئلا تصبح طرفاً في التعامل المباشر مع إسرائيل. وأضافت المصادر: “ربّما تكون للقطريين مصلحة مشابهة في تأخير دخول الملكية إلى ما بعد توقيع اتفاق الإطار بين الكونسورتيوم وإسرائيل”.
ولفتت المصادر إلى عبارة مفتاحية وردت في بيان “توتال إنرجيز” بإعلانها أنّها “ستستجيب لطلب (لبنان وإسرائيل) تقويم حجم الموارد الهيدروكوبونية وإمكانية الإنتاج” في البلوك رقم 9، وإعلانها رسميّاً بدء العمل في البلوك الذي يقع ضمنه حقل قانا المتداخل مع إسرائيل، “والشروع بتجهيز الفِرَق وشراء المعدّات المطلوبة والاستحصال على سفينة الحفر”.
هذا ورأت المصادر أنّ صيغة إعلان “توتال” تحمل إشارة صريحة إلى أنّ عملها يقع تحت سقف الموافقة الإسرائيلية، وأكّدت وجود اتفاق على تقاسم موارد حقل قانا، خلافاً لإعلان المسؤولين اللبنانيين أنّ لبنان حصل على الحقل بالكامل. ومثل هذا التصريح يمكن لـ”توتال” أن تأخذه على عاتقها، لكن لا يكمن للدولة أن تتحمّل تبعاته لو أنّها تمتلك حصة في الكونسورتيوم.
اعتبرت مصادر أخرى كان لها دور في ملفّ الترسيم أنّ “موقف لبنان الرسمي هو رفض الدخول في تحالف شركات سيمنح إسرائيل جزءاً من أرباحه”. وتابعت: “بناء على الاتفاق الموقَّع يحصل التحالف بين ثلاث شركات، أي إيني وتوتال وقطر إنرجي، ولا دخل للبنان بالعملية. صحيح أنّه صاحب الحقل، لكنّ ائتلاف الشركات هو الذي سيستثمر وسيمنح نسبة من أرباحه إلى الإسرائيليين، فيما سيتقاضى لبنان حصّته من توتال”.
وكشفت المصادر أنّ “العمل بدأ لوجستيّاً بقوّة دفع عالية، وقريباً تصل الباخرة التابعة لـ”توتال” لبدء الحفر، وستكون مشابهة لتلك التي أتت بها سابقاً إلى مرفأ بيروت”.