شكَّلَت تحويلات المغتربين السَنَدَ الأساس للعائلات اللبنانية بعد انهيار القدرة الشرائية للرواتب والأجور. وعوضَ ابتكار الدولة حلولاً اقتصادية ناجعة لإدارة الأزمة، اكتفت بمساعدات اجتماعية وُزِّعَت بصورة عشوائية. فضلاً عن آلية دعم للسلع لم تفضِ سوى إلى خلق سوق سوداء زادت الثقل على الرواتب والأجور. وأمام هذا الواقع، باتت التحويلات المتنفَّس الأبرز للعائلات، لكنها لم تسهم في تعزيز الاستثمارات بل دعمت الاستهلاك فقط. غير أن البنك الدولي يتوقّع تراجع نمو التحويلات على مستوى دولي في العام 2023، بنحو 2 بالمئة. فهل يؤثّر ذلك على واردات العائلات اللبنانية وقدرتها على مواجهة التضخّم؟. (راجع المدن).
القطاعات الدولارية
القطاعات الإنتاجية التقليدية غير فاعلة في الوقت الراهن، أي انها قاصرة عن تعزيز قدرة العائلات على الصمود. فالزراعة والصناعة قطاعان يحتاجان إلى الدعم الدولاري، ما يقوّض قدرتهما التنافسية أمام السلع المستوردة. وحقيقة دولرة الأكلاف تحتّم دولرة أسعار الاستهلاك، ما يقلّص حجم الإنتاج ومستويات البيع وعائداته. وهذا ما يدفع الخبير الاقتصادي باتريك مارديني إلى اعتبار أن “القطاع الإنتاجي حالياً هو القطاع الذي يُدخِل الدولار النقدي (الفريش) إلى السوق. وهذا ما يجعل التحويلات قطاعاً إنتاجياً إلى جانب القطاع السياحي بصورة أقل، إذ يتحرّك نشاطه من وقت لآخر”.
التحويلات شكّلت “رعاية إجتماعية وأصبحت الطريقة الوحيدة التي يعيش الناس من خلالها بشكل جيّد”، وفق ما يقوله مارديني في حديث لـ”المدن”. ومع ذلك، يرفض مارديني ربط التحويلات وما يدّخره اللبنانيون في منازلهم بقدرتهم الكبيرة على مواجهة الأزمة كما يحلو للبعض تصويره. أي كالاستناد إلى ما سُحِبَ من المصارف بالدولار، منذ العام 2019 ولم يُوَظَّف في الاستثمار. وبحسب مارديني، “لا أرضية مناسبة للاستثمار والإنتاج. فالدولة تبحث في كيفية انتزاع المزيد من أموال الناس بدل تحفيز الاستثمار وزيادة النمو”. وعدم الشروع في إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإيجاد حلّ لما تبقّى من الودائع، يُبعَد المغتربين عن تحويل أموالهم إلى المصارف أو استثمارها في السوق، ويزيد من خياراتهم بحفظ المدّخرات في الخارج وتحويل جزء بسيط للاستهلاك الداخلي. ما يُبقي على التحويلات باباً مفتوحاً لدعم القدرة الشرائية للعائلات، أي لدعم الاستهلاك وليس الإنتاج.
تراجع سعر الليرة
الأمر الإيجابي في استمرار التحويلات رغم توقّع تباطؤ نمو الانتاج المحلّي في البلدان ذات الدخل المرتفع التي تأتي منها تلك التحويلات، هو قدرتها على تقليص تداعيات التضخّم على الأسر. فذلك التباطؤ “لا يُقارَن بما يحصل في لبنان. لأن التباطؤ في تلك الدول يعني عدم ارتفاع الناتج المحلّي أو بأسوأ الأحوال انخفاضه بنحو 2 بالمئة، فيما أزمتنا تظهر عبر مؤشرات مثل ذوبان الناتج المحلّي من نحو 54 مليار دولار إلى نحو 20 مليار دولار حالياً”. كما أن ما يُعتَبَر مبلغاً متواضعاً في بلدان الدخل المرتفع، هو مبلغ مؤثّر في لبنان “والمغتربون يحوِّلون الأموال استناداً إلى الوضع المعيشي لذويهم في لبنان وليس لقيمة تلك التحويلات في البلدان التي يعيشون فيها”. فمن كان يحوِّل 300 دولار شهرياً وتقلّص تحويله إلى 200 دولار، لن يزعزع استقرار عائلته في لبنان، لأن المبلغ المحوَّل يملك قدرة شرائية مقارنة مع سعر صرف الليرة.
على أن هذه القدرة، وبحسب عجلة الأزمة، سيقابلها ازدياد مؤشرات سلبية مثل زيادة التضخّم وإقفال المزيد من الشركات وارتفاع سعر الدولار في السوق، والذي يعني من زاوية أخرى انخفاض سعر صرف الليرة لأن “كمية الليرات المطبوعة تتزايد بفعل الحاجة لتمويل عجز الخزينة وزيادة الأجور وإطفاء الحسابات المصرفية التي يُجبَر أصحابها على سحب قيمة دولاراتها بالليرة”. أي ان تعزيز قدرة العائلات سيقابله انهيار للاقتصاد العام.
ما تقدّمه التحويلات من دعم للعائلات والأفراد، يعكس في المقلب الآخر عمق الأزمة. فاقتصاد الأسرة والدولة بعيد من الإنتاج وتالياً من النمو، أي قريب من تحقيق استمرار المؤشّرات السلبية التي تُبقي لبنان بلداً يعيش على المساعدات وتجعل الأسر تنزلق نحو معدّلات فقر أعلى.