تكرار حاكم مصرف لبنان السيناريو نفسه لتبديل الليرات بالدولارات بواسطة التعميم 161، وانتظار نتائج مختلفة على صعيد تحسين سعر الصرف هو قمة الجنون. إذ عدا عن الكلفة الباهظة لهذا التدبير، التي عكستها أرقام “صيرفة”، وفقدانه سريعاً فعاليته، فهو قد يشجع على أوسع عملية تبييض أموال، ويضرب معايير العمل المصرفي بحائط التخبطات العشوائية.
أربعة مؤشرات أساسية يمكن التوقف عندها منذ إتاحة حاكم المركزي، يوم الثلاثاء الماضي، المجال أمام الأفراد والمؤسسات، لتبديل ما في حوزتهم من ليرات إلى دولارات على سعر منصة صيرفة، الذي حدّده على أساس 38 ألف ليرة للدولار:
أولاً: لم يحدث البيان صدمة إيجابية في سوق الصرف. حيث لم يتراجع الدولار مقابل الليرة إلا بنسبة 6.7 في المئة. فانخفض سعر صرف الدولار من حدود 47500 ليرة إلى 44000 ليرة. ما يعني أن البيانات فقدت عنصر المفاجأة، وأصبحت تهدف إلى تقطيع المرحلة التي تفصل الحاكم عن نهاية ولايته، بالمراوحة مكاننا بأقل أضرار ممكنة.
ثانياً: إرتفع حجم التعامل على منصة صيرفة من 36 مليون دولار قبل يوم القرار، إلى 110 ملايين دولار بعده بيوم. وبما أن مصرف لبنان هو العارض الوحيد للدولار على المنصة، فهذا يدلّ على العودة ربما إلى الإنفاق ممّا تبقى من احتياطي عملات صعبة تعود أساساً للمودعين، أو إنفاق ما جرى شراؤه من دولارات من السوق خلال الفترة الماضية.
ثالثاً: تمنّع مصارف عن تنفيذ قرارات المركزي دفع به إلى تحويل مئات آلاف المودعين إلى مصرف واحد، مصرف تبرع مواربة لحفظ ماء وجه الحاكم قبل أن يعدل قراره ببيان مؤكداً قدرته على خدمة الأفراد وليس المؤسسات.
رابعاً: خلق بلبلة في آلية التسعير، تمثلت في استجابة يتيمة وغير مفهومة لوزير الطاقة وليد فياض بتحديد أسعار المحروقات على أساس 38 ألف ليرة. وهو الأمر الذي جرى العدول عنه بعد أقل من 24 ساعة وعودة تسعير المحروقات على أساس سعر صرف السوق الموازية وليس “صيرفة”.
منتج هجين
المراقبة من بعيد لكيفية تعامل رأس السلطة النقدية مع مسألة انهيار الليرة المحتوم، تظهر محاولة سباح هاوٍ الخروج من تيار جارف. فهو يتخبط في بيانات هجينة. “بمعنى أنها تتضمن قرارات غير ملزمة، لا صفة رسمية لها، على عكس التعاميم”، يقول المستشار المالي د. غسان شماس. أمّا في المضمون، وهو الأهم، فقد طفا على سطح هذا البيان الخلاف المستحكم داخل جمعية المصارف، بين بنوك تعارض سياسة الحاكم، وأخرى تتوافق معها. فباستثناء بعض المصارف مثل الموارد، ومياب، وفيرست ناشونال بنك… رفضت مصارف عديدة فتح سقف تحويل الليرات إلى الدولارت، وتقديم الخدمات لغير عملائها. “في النهاية، لهذه المصارف كمية محددة من الدولارات تأخذها شهرياً من مصرف لبنان. وقد فضّلت المماطلة بتنفيذ قرار المركزي، من أجل الضغط على الحاكم لإصدار تعميم رسمي يضمن تحويل الدولارات الكافية مقابل كل كمية الليرات التي تشتريها المصارف من الأفراد والمؤسسات. ومن غير المستبعد من وجهة نظر شماس “تعهد الحاكم بتعميم تأمين الدولارات للمصارف مع مطلع العام المقبل، خصوصاً إن جرى تمديد القرار لفترة إضافية”.
الضغط على المصارف
تكبير الصورة مرات عديدة للتأكد ممّا يجري في بحر النقد الهائج، لا يزيل التخبط من المشهد، إنما يظهره أكثر انسجاماً مع أهداف حاكم المركزي. فالأخير “يسبح” على مستويين، برأي شماس: الأول، عميق، مطمئناً إلى إمكانية إحكام قبضته على مصارف “مفلسة”، يمكنه الضغط عليها ساعة يشاء بنسب السيولة والملاءة والإلتزام بتطبيق التعاميم، مثلما حصل مؤخراً مع مصرف البركة. والثاني، عائم، يحقق فيه مكاسب مرحلية من خلال إيحائه بتخفيض سعر الصرف في السوق الموازية بما يملك من أدوات بين يديه. فالذي حصل أن قراره دفع بحملة الدولار إلى بيعه بأعلى سعر ممكن، لإعادة شرائه مرة جديدة عندما تهبط السوق أكثر. إلا أن “بحر” السياسات النقدية كذّب “غطاسي” حملة الدولار، فلم ينخفض السعر إلا للحظات معدودة. ومن استفاد من هذا الإنخفاض كان المركزي نفسه وبعض الصرّافين المحظيين”. وبرأي شماس فإن المركزي والمصارف تلعب لعبة “من خلق قبل الدجاجة أو البيضة؟”. فالبنوك تطالب بتأمين المركزي الدولارت قبل إعطائها للعملاء، والأخير يطالب بإعطاء الدولارات ومن ثم التعويض على المصارف. وعلى هذا المنوال خسر الإقتصاد والمواطن مرة بعودة الدولار للارتفاع ومرّات بعدم انخفاض الأسعار”.
مخاطر تبييض الأموال
الأسوأ من هذا كله أن فتح سقف تبديل الليرات إلى الدولار يؤدي إلى أوسع عملية تبييض أموال. فالليرات المتأتية من المخدرات والرشاوى والتهريب والأمور غير الشرعية الأخرى، ستصبح نظيفة بمجرد تبديلها من المصرف مقابل إيصال. وبهذه الطريقة يتوسع الاقتصاد النقدي وتنتشر الآفات الاقتصادية.
شبح الدعم
مخاطر قرارات المركزي لم تقف عند هذا الحد. فخلال الأربع والعشرين ساعة الماضية نجا اللبنانيون من “قطوع” عودة الدعم. مع ما يرافق هذه الظاهرة من استنزاف لما تبقى من أموال المودعين، وانقطاع للسلع والمواد وبيعها بالسوق السوداء بأسعار مضاعفة. وإن كانت حماسة وزير الطاقة وليد فياض المفاجئة بتسعير المحروقات على أساس سعر صيرفة غير مفهومة لغاية اللحظة، فإن الواضح هو “عدم جواز ترك جدول تركيب أسعار المحروقات في يد الوزارة”، بحسب الباحث في “المعهد اللبناني لدراسات السوق”، كارابيد فكراجيان. فـ”لماذا يتم القضاء على المنافسة الحرة القائمة على النوعية والخدمات في مجال المحروقات، دون سواها من السلع والخدمات!”. فمن شأن إلغاء التسعيرة الرسمية ضمان التنافس بين المحطات، فتنخفض الأسعار وتتحسن الخدمات للمواطنين، وتتوقف عمليات الإبتزاز التي يمارسها بعض أصحاب المحطات. فجدول يوم أمس ضمن لبعض المحظيين من أصحاب المحطات شراء المحروقات على سعر رخيص والتقنين ببيعها، أو حتى عدم بيعها كلياً. الأمر الذي سمح لهم بتحقيق ربح 80 ألف ليرة بكل صفيحة على حساب المواطنين”. وعليه يمكن الاستنتاج بسهولة أن ما يحصل “يودي بنا إلى الهلاك، بكل ما للكلمة من معنى”، برأي فكراجيان. “في حين أن البديل موجود ويتمثل في البدء بتنفيذ الإصلاحات التي تكلف جرّة قلم، إذا ما جرى قياسها على مؤشر المصلحة العامة. أما على المصلحة الخاصة فهي تكلف المنظومة وأتباعها حصتهم من النظام”.
استياء أركان المنظومة
لعل ما يتحدث عنه فكراجيان ظهر فاقعاً في استياء البعض من تخفيض سعر الصرف على منصة صيرفة، في الوقت الذي تراجع فيه سعر صرف الدولار في السوق الموازية. حيث غرّد عضو كتلة “التنمية والتحرير” النائب قاسم هاشم كاتباً “إجراءات رياض سلامة في تعديل أسعار صيرفة بين لحظة ولحظة باب من أبواب النصب والاحتيال. وهو ما أصاب أكثرية الموظفين خلال وقت قصير. والعدالة تقتضي التصويب وإعادة الفروقات لأصحابها عبر المصارف شريكة الحاكم على الناس بالظلم”. من الواضح أن ما يهم هذه الطبقة السياسية ليس مصلحة البلد، إنما الحفاظ على مصلحة موظفيهم وأزلامهم في إدارات الدولة ومؤسساتها، وشراء صمتهم على تدهور أوضاعهم المعيشية من فتات حقوقهم وحقوق بقية المودعين. الأمر الذي يشير إلى استحالة الخروج من الأزمة والاضطرار مراراً وتكراراً للجوء إلى خدع المسكنات النقدية، لمداواة مرض الاقتصاد العضال.
العام 2022 الذي سيقفل على سعر صرف أقل من 50 ألف ليرة، سيسلم العام الطالع جملة من التناقضات والمشاكل ليس أقلها أهمية “تعزيز الشرخ في جمعية المصارف واحتمال تحولها إلى جمعيتين”، من وجهة نظر شماس. فمقابل عدم إكتراث المركزي لما قد يحصل. خصوصاً مع قرب انتهاء ولايته تستقتل المصارف، ومن يقف وراءها للمحافظة على كيانها واستمراريتها بشتى الطرق. وهو ما سينعكس مزيداً من التأخير في إقرار الخطة النهائية وتعميق فجوة الخسائر.