اقتصاد “كازينو” رياض سلامة: حين يضارب المركزي على الدولار

صباح أمس، شهدت سوق المحروقات بعض الحلحلة، انطلاقًا من التسوية التي تمّ التوصّل إليها في ساعات متأخّرة من ليل أول أمس الأبعاء، والتي قضت بإعادة إصدار جدول جديد لأسعار للمحروقات، استنادًا إلى سعر صرف السوق الموازية، لا المنصّة. التسوية بحد ذاتها، مثّلت ضربة لمصداقيّة تعاميم المصرف المركزي وإجراءاته. إذ كيف يمكن للسوق أن تصدّق ادّعاء المصرف بأنّه سيقوم ببيع الدولار، ومن دون سقف لجميع المواطنين، وفقًا لسعر صرف المنصّة، إذا كان مستوردو أبرز السلع الأساسيّة لا يملكون القدرة على شراء الدولارات بهذا السعر لتمويل الاستيراد؟ وإذا كان المصرف جادًا فعلًا في ادعائه التوجّه لبيع الدولار للجميع بسعر منصّته، ألم يكن أجدر به أن يبدأ بتأمين العملة الصعبة للحاجات الملحّة، بدل أن تصدر جداول الأسعار على أساس سعر السوق الموازية؟

بمعزل عن ما تكشفه تخريجة مساء الأمس، كشفت أزمة انقطاع المحروقات نفسها، التي سبقت التخريجة، الكثير في ما يخص السياسة النقديّة التي يعتمدها المركزي، وتراجع مصداقيّتة بياناته التي باتت أقرب إلى قنابل صوتيّة تصدر بين الفينة والأخرى، من دون أن تعكس أي معالجات أو إجراءات حقيقيّة. فأزمة البنزين نفسها كشفت أن مفعول بيانات المركزي لم يعد يتجاوز حدود المضاربة على سعر صرف الدولار في السوق، من دون أن تتضح حتّى اللحظة هويّة المستفيدين من هذه البهلوانيّات الفارغة من أي منطق اقتصادي أو علمي.

تسلسل الأحداث العجيب

بدأت القصّة يوم الثلاثاء الماضي، ببيان مصرف لبنان الذي أعلن فيه عن “شراء كل الليرات اللبنانيّة وبيع الدولار” على أساس سعر منصّة صيرفة، الذي تم رفعه إلى حدود 38 ألف ليرة مقابل الدولار، على أن يتم السماح للأفراد والشركات بتقديم الطلبات عبر المصارف ومن دون حدود (راجع المدن). عمليًّا، أراد مصرف لبنان من هذا البيان الإيحاء بأنه يتجه نحو بيع الدولار بلا سقف عبر المنصّة، أي ضخّه في السوق تمامًا كما فعل في الأشهر الأولى من هذه السنة، ما يفترض أن يخفّض سعر صرف السوق الموازية إلى حدود تقارب سعر المنصّة نفسها.

في اليوم التالي، شهدت السوق انخفاضًا في قيمة الدولار إلى نحو 43,500 ليرة للدولار، نتيجة الأثر المعنوي والنفسي للبيان على مضاربات السوق. إلا أن سعر الصرف لم ينخفض ليوازي سعر صرف المنصّة، كما جرى في مرحلة ضخ الدولار في أشهر السنة الأولى، لكون المصارف لم تطبّق مضمون البيان فعلًا، ولم تعرض الدولارات للبيع بلا سقف كما أعلن المصرف المركزي في بيانه.

وفي الأصل، لم يكن أحد يتوقّع أن يطبّق المصرف المركزي مضمون بيانه فعلًا، إذ من غير المعقول أن يلجأ المصرف إلى ضخ الدولارات بهذا الشكل السريع، بعد تكبّده عناء امتصاص الدولارات من السوق الموازية على مراحل، منذ شهر أيلول الماضي. باختصار، كان بيان المركزي مجرّد طلقات في الهواء، من دون أي مفعول حقيقي على مستوى عمل المنصّة من خلال المصارف.

أثر هذه الخطوة ظهر سريعًا على شكل تخبّط في سوق المحروقات. فوزارة الطاقة وضعت جدول الأسعار على أساس سعر المنصّة، مفترضةً أن مستوردي البنزين سيتمكنون من شراء الدولارات عبر المنصّة بلا قيود، تمامًا كما وعد بيان المصرف المركزي. لكن وبما أن البيان –كما ذكرنا- لم يكن سوى قنبلة صوتيّة، لم يتمكّن أي من مستوردي البنزين من الحصول على الدولارات بسعر المنصّة الموعود، ما أفضى إلى بدء المحطات بالإقفال تدريجيًّا يوم أمس الأربعاء، بانتظار تصحيح الجدول. وكما كان متوقّعًا، عادت المحطّات إلى فتح أبوابها اليوم، بعد تصحيح جدول الأسعار واعتماد سعر صرف السوق الموازية، بدل سعر المنصّة.

في كل هذه الأحداث، كشفت الأزمة يوم أمس، والمعالجة صباح اليوم، أن بيانات المركزي تبيع اللبنانيين سمك المنصّة في بحر المصارف، ما أفرغ البيانات من صدقيّتها وتأثيرها. وهذا تحديدًا ما يفسّر بيان المصرف المركزي يوم أمس، الذي حاول الإيحاء بأن الإشكاليّة هي امتناع المصارف عن التجاوب مع بياناته، محيلًا طالبي الدولار إلى بنك الموارد، المتجاوب مع تعميمه.

وهنا بالتحديد، بدا أن المصرف المركزي يهرب إلى الأمام بخطوة استعراضيّة أخرى، بعد أن كشفت أزمة المحروقات أنّه لم يملك أصلًا قدرة تطبيق إعلان “بيع الدولار بلا سقف”. مع الإشارة إلى أنّ أي عاقل لا يمكن أن يتصوّر أن مصرفًا متوسّط الحجم –كبنك الموارد- سيتمكن بالفعل من تلبية طلب السوق بأسره على الدولار، وهذا ما أثبتته تطورات اليوم الخميس، مع استمرار الفارق بين سعر صرف المنصّة وسعر صرف السوق الموازية.

مضاربات المصرف المركزي

ما فعله مصرف لبنان إذًا خلال 48 ساعة الماضية لم يكن سوى عمليّة مضاربة محدودة الأثر، خفّضت سعر صرف الدولار بفعل العامل النفسي لفترة محدودة، على أن يعود الدولار لتسجيل ارتفاعاته المعتادة. في الأصل، مصرف لبنان الذي يدعي ضخ الدولارات اليوم، هو نفسه الذي امتصّ أكثر من 720 مليون دولار من السوق خلال الأشهر الثلاثة الماضية، عبر شركات الصيرفة التي تعمل لحسابة داخل السوق الموازية نفسها. وبهذا المعنى، بات مصرف لبنان لاعبًا كبيرًا داخل السوق السوداء: يشتري دولاراتها، فيرفع سعر صرفها، ثم ينتظر موسم الأعياد ليضرب سعرها ببيان استعراضي، كي يشتري دولارات المغتربين، قبل أن يترك سعر الصرف ليتفلّت من جديد.

وبذلك، بات الاقتصاد بأسره كازينو كبيراً، ينقل الخسائر والأرباح في لحظات من كفّة لكفّة، عبر ألاعيب يشارك فيها المصرف المركزي نفسه، بدل أن يسعى –كما هو مفروض- لتوحيد سعر الصرف وتعويمه بشكل شفاف عبر المنصّة نفسها. وفي هذه اللعبة، باتت المنصّة مجرّد أداة إضافيّة من أدوات المضاربة، التي لا يعرف أحد آليّات عملها أو هويّة المستفيدين منها، أو طريقة تحديد سعر الصرف فيها. وثمة من يسأل اليوم: إذا كانت المنصّة تعمل وفقًا لموازين العرض والطلب، كما يدعي الحاكم، هل يمكن لأحد أن يفسّر كيف تم رفع سعر صرفها ببيان من الحاكم، من 31,200 ليرة للدولار إلى 38,000 ليرة للدولار؟

مهزلة المنصّة

وبعد كل هذه الأحداث، ثمّة من يسأل عن ما هو أخطر: من استفاد فعليًّا من 110 مليون دولار التي تم تداولها عبر المنصّة يوم أمس، بهذا السعر المدعوم، الذي يقل عن سعر السوق الموازية بنحو 5000 ليرة للدولار الواحد؟ من هم هؤلاء التجّار، في حين أنّ مستوردي السلع الأساسيّة نفسها، كالبنزين والمازوت، لا يملكون القدرة على تمويل عمليّات استيرادهم عبر المنصّة؟ من هم هؤلاء التجّار، طالما أن جميع السلع في السوق مسعّرة بسعر السوق الموازية نفسها، لا سعر المنصّة؟ من المستفيد منذ بداية السنة من هذا الفارق بين السعرين؟

والسؤال عن هؤلاء، يقودنا تلقائيًّا للسؤال عن المستفيدين من أكثر من 10 مليار دولار، التي تم تداولها عبر المنصّة منذ بداية السنة، من دون أدنى قدر من الشفافيّة حول آليّة بيع الدولار وتحديد هويّة المستفيدين، بل من دون أدنى قدر من الشفافيّة حول كيفيّة اختيار الشركات التي تعمل على خط شراء الدولار من السوق لحساب مصرف لبنان، وبعمولات خياليّة. وثمّة من يذهب أبعد في أسئلته: أي سند قانوني سمح لحاكم المصرف المركزي بإنشاء هذه المنصّة، وتحديد سعر صرف إضافي لتداول الدولار عبرها، ومن ثم اعتماد هذا السعر لاستيفاء بعض الرسوم؟

كل ما سبق لم يكن سوى عيّنة من الأسئلة التي لا تنتهي، حول آليّات إدارة المصرف المركزي لتدخلاته في سوق القطع، والتي يشوبها اليوم الكثير من الغموض. وهذا الغموض، يدفع تلقائيًّا إلى السؤال عن هويّة المستفيدين من هذه الفوضى النقديّة، والعبثيّة التي تحكم جميع الإجراءات التي يعتمدها حاكم مصرف لبنان. كل هذه التساؤلات باتت مشروعة اليوم، بعدما بات واضحًا أن قرارات ضخ الدولار في بداية العام، ومن ثم امتصاصه في الأشهر الأخيرة منه، لم تكن إلا بناءً على طلب السلطة السياسيّة، ما أفقد السياسة النقدية استقلاليّتها وقدرتها على العمل بمنأى عن مصالح السياسيين. وحين تفقد السلطة النقديّة استقلاليّتها، يصبح من المشروع التشكيك بالصفقات التي تحكم عمل سوق القطع اليوم.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةهجرة الأطباء: 50% من المراكز الصحية معرّضة للإقفال
المقالة القادمةقصة 3 سنوات من مآسي الدولار وارتفاعاته الصاروخيّة في لبنان