تمامًا كالغاز ومشتقات النفط الأخرى بكل أنواعها، بإمكان الهيدروجين أن يُنتِج الكهرباء ويحرّك المصانع والسيّارات. لكن وبخلاف الغاز والنفط، لن يولّد حرق الهيدروجين لإنتاج الطاقة أكثر من بخّار ماء خفيف، تمامًا كالذي نتنشّقه بسلام خلال حمّام ساخن في المنزل. وسيكتسب الهيدروجين صفة “الهيدروجين الأخضر” إذا استعملنا الطاقة الشمسيّة أو طاقة الرياح، أو الطاقة المتجددة بصورة عامّة، لإنتاجه. وعند إنتاجه على هذا النحو، سنكون قد تخطينا أبرز العقبات التي حالت دون التوسّع في الاعتماد على الطاقة المتجددة: تذبذب إنتاجيتها بين الفصول، بل وبين ساعات اليوم، وتفاوت القدرة على استخدامها حسب مناخ كل منطقة، وارتفاع كلفة تخزينها في البطاريات.
بصورة أوضح، سيكون بإمكاننا أن نخزّن فائض الطاقة المتجددة في ساعات وأماكن ذروة الإنتاج، عبر استخدامها لتصنيع الهيدروجين الأخضر، ومن ثم استهلاكه في أي وقت، وسيكون بالإمكان نقل هذا الهيدروجين إلى أي مكان في العالم. نظريًّا، بإمكان الهيدروجين، الأخضر بصورة خاصّة، أن يشكّل سلسلة توريد نظيفة للطاقة، تغني البشريّة تدريجيًّا عن الوقود الأحفوري وتلوثه ومحدوديّته.. وحروبه!
حلم قديم استيقظ اليوم
في واقع الأمر، ليس في هذه الصورة الورديّة والحالمة أي اختراع جديد اليوم. لأكثر من عقدين، كان استبدال النفط والغاز بالهيدروجين المصنّع حلمًا راود مراكز الأبحاث والشركات في أوروبا واليابان بالتحديد. وطوال تلك السنوات، وضعت آلاف التصاميم وبراءات الاختراع، وأُنفقت عشرات مليارات الدولارات لتطوير سبل إنتاج واستهلاك الهيدروجين، من دون أن تنشأ فعلًا سلاسل الإنتاج والتوريد المتكاملة الموعودة، ومن دون أن يبدأ الانتقال الفعلي لاستخدام الهيدروجين على نطاق واسع في الصناعة والنقل وتوليد الكهرباء. ومنذ ذلك الوقت، تكرّرت اللحظات التي قيل فيها أنّ أوان “الهيدروجين بدل النفط” قد آن، قبل أن يتبيّن أن فجر الهيدروجين لم يبزغ فعلًا، لتظل مشاريع الهيدروجين مجرّد تجارب محدودة النطاق.
ثم أتى عام 2023، الذي يبدو أنّه يحمل اليوم ما يدعو للتفاؤل على هذا الصعيد. ففي مختلف أنحاء، يستيقظ حلم الهيدروجين الأخضر بشكل مفاجئ وغريب، لتتدفّق استثمارات ضخمة على مشاريع جديدة يفترض أن تبصر النور خلال العام 2023 بالتحديد.
وجميع هذه المشاريع، توحي بأنّ اقتصادات العالم المختلفة تتجه فعلًا للتوسّع في استخدام هذا المصدر من مصادر الطاقة النظيفة، بخلاف المشاريع السابقة التي اقتصرت على أعمال البحث والتصميم ووضع الأفكار النظريّة، أو تجربة الإنتاج ضمن نطاق ضيّق. ولهذا السبب، يعتبر كثيرون أن العام الحالي سيكون محطّة حاسمة، على مستوى الانتقال التدريجي باتجاه استعمال الهيدروجين الأخضر.
انسحاب الموانع السابقة وتزايد الحاجة للفكرة
ما الذي استجد اليوم، حتّى استيقظت الأسواق والدول على هذا الحلم القديم؟ طوال العقدين الماضين، كانت العقبة الأساسيّة أمام توسّع الاستثمارات المرتبطة بالهيدروجين هي ارتفاع كلفته مقارنة بكلفة استخدام مصادر الطاقة الإحفوريّة بشكل مباشر، بالإضافة إلى بعض العقبات التقنيّة المرتبطة بطرق تخزينه ونقله، أو كفاءة استعماله. ولهذا السبب بالتحديد، لم تقدم شركات القطاع الخاص على التوسّع في الاستثمار بهذا المجال، أو محاولة الإنفاق لخلق سلاسل توريد جديدة تغطي جميع مراحل الإنتاج والنقل والاستهلاك.
في العديد من المراحل، كان ارتفاع أسعار النفط والغاز يزيد من جدوى مشاريع الهيدروجين الأخضر. إلا أنّ شركات القطاع الخاص كانت في العادة تجبُن أمام مغامرات تتطلب إنفاقاً ضخماً على شبكات جديدة من المعامل والبنى تحتيّة، لاستحداث سوق طاقة جديد من الصفر. فحتّى لو وجدت هذه الجدوى خلال لحظة من الزمن، بإمكان انخفاض مفاجئ في أسعار النفط والغاز، كما حصل عام 2020، أن يُفقد مشاريع الهيدروجين جدواها.
بدأت موانع الاستثمار في مجال الهيدروجين بالانسحاب تدريجيًّا على مدى السنوات القليلة الماضية. التطوّر الأهم، كان الانخفاض السريع والحاد في كلفة أدوات إنتاج الطاقة المتجددة. فكلفة أدوات إنتاج الطاقة الشمسيّة مثلًا باتت توازي اليوم 11% فقط من كلفتها السابقة قبل عشر سنوات، ما جعل الطاقة المتجددة بديلاً جذّاباً من حيث الكلفة. لكن كما ذكرنا سابقًا، كانت إشكاليّة الطاقة المتجددة هي تفاوت معدلات الإنتاج بين الأوقات والأمكنة المختلفة، ما رفع الحاجة للهيدروجين كوسيط لتخزين الطاقة المُنتجة، عبر استعمال هذه الطاقة لتصنيعه ومن ثم استهلاكه في زمان ومكان آخرين. ببساطة، كان انخفاض كلفة إنتاج الطاقة المتجددة يخفّض كلفة إنتاج الهيدروجين، ويزيد من الحاجة إليه، في الوقت نفسه.
ثم جاءت مجموعة من الاختراعات الجديدة خلال العامين الماضيين، لتطرح حلولاً جديدة تزيد من كفاءة تخزين واستهلاك الهيدروجين، وهو ما عالج العديد من الإشكاليّات السابقة، وأبرزها كلفة التخزين المرتفعة. ومن هذه الاختراعات على سبيل المثال، وسائط جديدة لتخزين الهيدروجين في حالات مستقرّة وجامدة (أي صلبة)، وبمساحات صغيرة وضغط خفيف، ما يغني عن تخزينه بمساحات كبيرة بحالة غازيّة، وبضغط مرتفع ومكلف ماديًّا.
كما ظهرت مجموعة من الاكتشافات الجديدة التي طوّرت طريقة استعماله لتوليد الطاقة، وطريقة استعمال الطاقة الكهربائيّة لإنتاجه. وجميع هذه الإكتشافات، كانت تذلّل على مدى السنتين الماضيتين الكثير من العقبات التي ارتبطت بكلفة إنتاج واستعمال الهيدروجين، إلى حد خفض كلفة إنتاجه إلى حدود النصف اليوم، مقارنة بكلفة إنتاجه قبل خمس سنوات.
تزايد الجدوى الاقتصاديّة والسياسيّة
بعد كل هذه التطوّرات، جاء العام 2022، وما شهده من ارتفاع صاروخي في أسعار النفط والغاز، بالتوازي مع اندلاع الحرب في أوكرانيا. هنا، كانت الجدوى الاقتصاديّة لمشاريع الهيدروجين تتزايد مع ارتفاع كلفة مصادر الطاقة التقليديّة، بعدما خفضت التطوّرات السابقة كلفة إنتاج الهيدروجين كبديل. وانخفاض كلفة إنتاج الهيدروجين، كان كفيلًا بخفض مخاطر تذبذبات أسعار مصادر الطاقة التقليديّة، خلافًا لما كان عليه الحال قبل عقد من الزمان.
إلا أنّ الجدوى السياسيّة، فاقت في أهميّتها العام الماضي الجدوى الاقتصاديّة. فالدول الأوروبيّة عادت سريعًا لتلتفت إلى أهميّة أمن الطاقة وحساسيّته، في عالم قد يقرّر فيه رئيس دولة كبرى كروسيا قطع الغاز عن القارّة بأسرها، على هامش غزوه لأوكرانيا. ثم ذاقت أوروبا المرّ أيضًا حين أدركت أن منتجي النفط الخام الآخرين في “أوبيك+” باتوا أكثر براغماتيّة في إدارة إنتاجهم، وأكثر خشونة في استعمال أوراقهم التفاوضيّة في وجه الدول الصناعيّة، إلى حد عجز الولايات المتحدة عن إقناع المملكة العربيّة السعوديّة بزيادة إنتاجها للنفط. وبالنسبة لأوروبا بالتحديد، لا يوجد حل لكل هذه المشاكل أفضل من تصنيع مصادر الطاقة في أماكن مختلفة من العالم، ومنها أوروبا، بدل رهنها بالدول التي أنعمت عليه الطبيعة بالوقود الأحفوري.
أمّا الدفع الكبير باتجاه الهيدروجين الأخضر، فسيستفيد خلال العام الحالي من رزم دعم قانون مكافحة التضخّم الأميركي، الذي خصّص رزمات دعم ضخمة لمشاريع وشركات تعمل في قطاع التصنيع، المرتبط بمصادر الطاقة المتجددة، ومنها الهيدروجين الأخضر. ولعل الولايات المتحدة استهدفت بدورها، من خلال التركيز على هذا الجانب في القانون، تعزيز أمن الطاقة لديها، تمامًا كحال أوروبا التي تستهدف خلق سوق أوروبي للهيدروجين الأخضر على مدى السنوات القليلة المقبلة.
استحداث سوق الهيدروجين الأخضر
لم يعد الحديث عن الهيدروجين الأخضر، كرهان حقيقي، وهماً في هذه المرحلة بالتحديد. فالاتحاد الأوروبي يسير اليوم في مقدمة التكتلات المصرّة على استحداث سوق كامل للهيدروجين الأخضر، يبدأ من عمليّات الإنتاج باستخدام الطاقة المتجددة، ويمر بالتخزين والنقل، ويصل لغاية أسواق استهلاكه في مجالات توليد الكهرباء والنقل والصناعة.
ولهذه الغاية، خصص الاتحاد ما يزيد عن 300 مليار يورو ضمن مبادرة تعزيز دور الهيدروجين، ليكون هذا الغاز أحد الرهانات التي سيلجأ لها الاتحاد لتنويع مصادر الطاقة التي سيستخدمها خلال السنوات المقبلة، كبديل عن الغاز الروسي. وفي النتيجة، يراهن الاتحاد على رفع نسبة الاعتماد على الهيدروجين ضمن مزيج الطاقة المستخدم لديه إلى حدود 14% بحلول العام 2050، من خلال مجموعة من المشاريع التي تشمل أنابيب نقل ومرافئ استقبال وغيرها.
في المنطقة العربيّة، تندفع اليوم تسع دول عربيّة للاستفادة من هذا الإقبال العالمي المستجد على استخدام الهيدروجين الأخضر، عبر إطلاق 23 مشروعًا لإنتاج الهيدروجين، تتوزّع ما بين مصر، والإمارات العربيّة المتحدة، والمملكة العربيّة السعودية، والمغرب، وعمان، والعراق، والجزائر، وقطر، وموريتانيا. مع الإشارة إلى أنّ جزءاً كبيراً من هذه المشاريع جرى بتمويل وشراكة مع مؤسسات دوليّة وشركات عالميّة، ما يدل على استفادة هذه الدول ماليًّا من تشجيع الغرب على تعزيز سوق الطاقة العالميّة بالهيدروجين الأخضر.
على مستوى الولايات المتحدة، تنخرط الغالبيّة الساحقة من شركات الطاقة الكبرى في مشاريع جديدة من هذا النوع، بالاستفادة من الحوافز الحكوميّة الجديدة. وبشكل عام، من المتوقّع أن يبلغ في العام 2023 عدد الدول التي وضعت خطط تنمويّة لإنتاج هذا الغاز الأربعين دولة، من بينها الهند والصين واليابان التي تتنافس على ريادة هذه المشاريع في منطقة جنوب وشرق آسيا.
ومن المتوقّع أن يبلغ هذه السنة عدد المشاريع الجديدة المنتجة للهيدروجين الأخضر 500 مشروع، باستثمارات جديدة سيتخطّى حجمها 530 مليار دولار. وحسب الأرقام، يتركّز أكثر من نصف مشاريع إنتاج الهيدروجين الأخضر الجديدة هذه السنة في دول الاتحاد الأوروبي وحدها.
باختصار، من المفترض أن نشهد خلال العام الحالي ظهور طلائع سلاسل توريد الهيدروجين الأخضر، بعدما تهيأت الأرضيّة اللازمة لذلك على مدى العام الماضي، عبر رزم الدعم الحكوميّة التي تم تقديمها للمشاريع الناشئة في هذا القطاع. كما من المتوقّع أن تشهد السنوات المقبلة المزيد من الاختراعات والبحوث القادرة على تطوير كفاءة تخزين واستعمال هذا الغاز، في ظل اهتمام القطاع الخاص والشركات الكبرى بهذا الجانب من سلاسل التوريد، تمامًا كما تم خفض كلفة إنتاج الطاقة المتجددة خلال العقد الماضي بشكل متدرّج.
ولهذا السبب، قد تكون كل هذه المستجدات فعلًا بداية تخفيض الاعتماد على الوقود الأحفوري في أسواق الطاقة بشكل متدرّج، بعد أن عالج الهيدروجين آخر الإشكاليّات التي كانت تحول دون الاعتماد الكامل على الطاقة المتجددة، من خلال قابليّته للتخزين والنقل بعد إنتاجه عبر مصادر طاقة نظيفة.