خلق مصرف لبنان مهنة جديدة لا تتطلب مهارات ولا مراكمة خبرات، بل ساعات من الانتظار وبال طويل، أو حتى قليل من العلاقات النافذة في أي مصرف: مهنة المضاربة على الليرة. تستند هذه المهنة إلى التعميم 161 الذي يتيح إيداع الليرات وشراء دولارات على سعر «صيرفة». وكلما انتهت مدّة التعميم، اتخذ المجلس المركزي لمصرف لبنان قراراً بتمديده، وإذا لم يكف الأمر صدر بيان عن الحاكم يحدّد سقوفه ومداه الزمني ووتيرته. بهذا التعميم يؤثّر مصرف لبنان في أسعار الصرف المتعددة. وبه أيضاً يدفع الناس نحو هذه المهنة الجديدة التي تدرّ دخلاً سهلاً وسريعاً وشبه مجاني.
استغل عصام عطلة عيد الميلاد ورأس السنة ليتفرغ لجمع 75 مليون ليرة من الأقارب والأصدقاء، علماً بأن «بنك لبنان والمهجر» أبلغه أن سقف الاستفادة من العمليات على «صيرفة» يبلغ 100 مليون ليرة يقتطع منها عمولة بنسبة 5%. بذلك يكون عصام (ومدينوه) قد حققوا أرباحاً بقيمة 5.5 مليون ليرة إذا حوّلوا الدولارات المقبوضة عبر «صيرفة» إلى ليرات على سعر صرف للسوق الحرّة يساوي 43000 ليرة. الأمر نفسه سيقوم به بشارة وزميله سليم اللذان سيتشاركان؛ الأول برأسمال «الصفقة» بقيمة 100 مليون ليرة، والثاني بصلاحيته في الاستفادة من التعميم في حسابه لدى «بنك بيروت». وسيحققان نحو 7.5 مليون ليرة. أما باسمة، وهي أجيرة مياومة في القطاع العام، فتعبّر عن فرحتها بحصولها على راتبها عن شهر كانون الأول في «بنك عودة» على سعر صيرفة 31200 ليرة ما أتاح لها تأمين سلّة أكبر من حاجات أسرتها.
في المقابل، ترى ياسمين أن الهامش بين سعر صرف السوق الحرّة، وسعر «صيرفة» تقلّص كثيراً، أي أن المبلغ الذي يمكن أن تحقّقه من عملية إيداع الليرات بهدف شراء الدولارات، لا يستأهل الوقوف في الطوابير على أبواب «فرنسبنك» حيث توطن راتبها. بالنسبة لها فإن التذلل لأحد الموظفين أو النافذين لا يستحق، فبالكاد ستغطّي القيمة المحقّقة بعض الحاجات الشخصية، بينما هي ليست مضطرة، وفق تعبيرها، على معايشة هذا القلق، كونها تحصل على مصادر دخل من إخوتها في الخارج.
صحيح أن الفارق الضئيل بين سعر السوق وسعر صيرفة ليس جاذباً بحكم المخاطر التي يراها الأفراد في الانخراط بعمليات من هذا النوع مع المصارف المفلسة، إلا أن عوامل عدّة تحجب هواجسهم وتدفعهم للمخاطرة بهدف تأمين مداخيل إضافية تغطّي بالحد الأدنى إنفاقهم على الخدمات الأساسية. فالقدرة الشرائية تدنّت وتآكلت بفعل التضخّم وغياب التوجّه الحكومي لتصحيح فعلي للرواتب والأجور يتجاوز عملية الترقيع التي اتخذت بزيادة الحدّ الأدنى إلى 2.6 مليون ليرة وزيادة بدل النقل إلى 95 ألف ليرة عن كل يوم عمل. الزيادات الأخرى التي اتفق عليها لن تطبق لأنها تحتاج إلى انعقاد جلسة لمجلس الوزراء وإقرارها بمرسوم.
وبين «صيرفة – الإيداع» و«صيرفة – رواتب الموظفين» يتوزّع جهد الأسر للحصول على هذا القدر الضئيل من الدخل الإضافي. إلياس، مثلاً، لم يستوعب إلى الآن التغير الحاصل في نمط عيشه إذ بات عليه أن يتخلّى عن مزايا كثيرة مقابل الحفاظ على مستوى تعليم أولاده، إلا أن خطواته لم تعد تكفي لذلك ما دفعه إلى ممارسة المضاربة المبنية على تعاميم الحاكم رياض سلامة. فقام على مدى يومين بإيداع 500 مليون ليرة في حسابه لدى «فرنسبنك» على أن يسترجعها بالدولار النقدي بعد أربعة أيام عمل متواصلة «مثيرة للقلق تحسباً من صدور تعميم جديد يكبدّه خسائر، أو خوفاً من «ابتلاع المصرف لحسابه لسبب ما»، أو «ارتفاعاً مفاجئاً في سعر صيرفة».
البحث عن رأسمال لممارسة المهنة الجديدة المربحة، دفعت خليل إلى إقناع زوجته برهن مجوهراتها لدى القرض الحسن مقابل دولارات نقدية يبيعها في السوق الحرّة ثم يودعها في حسابه لدى «بنك لبنان والمهجر» لاستردادها على سعر صيرفة. يأمل في أن تعوّضه هذه العملية، خسارة تكبدها في استثماره في برنامج «ولدي plus» لدى المصرف نفسه.
بين الخوف من المستقبل المجهول، وبين الاستبقاء على ماضي الرخاء والبحبوحة، وبين «زيادة الخير خير»، و«البلاش كتّر منّو» و«بحصة بتسند خابية»، هناك فئة العاطلين من العمل الذين وجدوا في التعميم فسحة عمل. إذ يتولّى بعض أفراد هذه الفئة نيابة عن مودعين بموجب وكالات أو تكليفات، للقيام بعملية صيرفة، أو بموجب علاقات مع مالكي أو مساهمي أو مديري بعض المصارف لتسهيل تلك العملية.