يترقَّب الجمهور قرارات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، خصوصاً تلك التي تستهدف خفض سعر الدولار في السوق الموازية. ويحاول كل فرد التكهّن بما ستؤول إليه الأمور، خصوصاً لناحية أسعار الدولار والسلع. لتأتي النتيجة، تقلُّب حاد للدولار وهدوء لأسعار السلع وفق معدّلات مرتفعة. فما الحاجة لتدخُّل المصرف المركزي في هذه الحالة؟
عزلة أسعار السلع
تحت ستار شراء دولارات الاستيراد من السوق الموازية، ارتفعت أسعار السلع، وفي مقدّمها المواد الغذائية. وبات واضحاً أن السلع مرتبطة فقط بارتفاع الدولار وليس انخفاضه. فيؤكّد أحد أصحاب السوبرماركت أنه “مع إعلان فتح المجال للاستفادة من دولارات المنصّة، انتظرنا استلام البضائع من التجّار بأسعار منخفضة، وفوجئنا بعد نحو أسبوعين برفع الأسعار”.
ويشير في حديث لـ”المدن”، إلى أن “اتجاه الأسعار متصاعد، ولا إمكانية للحديث عن انخفاض، مهما أُعلِن عن تأمين الدولارات (عبر “صيرفة”)، لأن لا أحد يعلم مَن يستفيد من تلك الدولارات، ولا أين تذهب”.
المستوردون بدورهم يبحثون عن الدولار ويطالبون سلامة بتأمينه على سعر منصة صيرفة. والحاكم يستجيب لتخفيف حجم الطلب على الدولار في السوق، فيُحرِّك المنصة بأشكال مختلفة، منها على سبيل المثال، القرار الصادر في تشرين الأول 2022، القاضي ببيع الدولار حصراً عبر المنصة، وبعدها القرار الصادر نهاية كانون الأول المنصرم، والقاضي بفتح سقوف السحب على المنصة. وفي كل مرّة، يتراجع سعر دولار السوق بمعدّلات كبيرة، ويعلن المركزي عن ارتفاع حجم التداول على المنصة، أي حجم استفادة المعنيين من دولار المنصة. لكن استفادة المستوردين، لا تنعكس انخفاضاً في أسعار السلع التي يفترض أنهم استوردوها بدولار المنصة. بل تبقى الأسعار وفق دولار السوق.
ومن وجهة نظرهم، فإن استفادة مستوردي المواد الغذائية من المنصة ضئيل جداً. فالشروط المطلوبة للاستفادة “تتطلّب أوراقاً ومستندات كثيرة ولا يتم تأمين الدولارات بالوقت المناسب والكمية اللازمة. ولذلك يضطر المستوردون لشراء الدولار من السوق”، وفق ما يوضحه نقيب مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي، الذي يقول لـ”المدن” أن “البعض يظن أن المستوردين يستفيدون بشكل دائم من صيرفة، في حين أنهم قبل القرار الأخير لمصرف لبنان، لم يكن المستوردون يستفيدون من المنصة”.
حتى أن حصول البعض على دولارات المنصة “لا يعني بالضرورة وضع أسعار سلعهم وفق سعر المنصة”. والمعضلة هنا تكمن في “عدم وجود آلية مراقبة تُظهر أين ذهبت الدولارات ومن استفاد منها، وما إذا كان المستفيد يسعّر بحسب المنصة”.
وعموماً، يعتبر بحصلي أنه “لا يمكن للتجار الاعتماد على دولار صيرفة وتسعير السلع وفقه. ونتمنى على المركزي تأمين الدولارات بشكل كامل، مع أي رقابة يفرضها”.
وتحسين شروط الاستيراد لا يقابله تحسين القدرة الشرائية للرواتب والأجور، علماً أن من أهداف منصة صيرفة، تحسين تلك القدرة عبر تأمين الدولارات للموظفين. ويرى رئيس جمعية المستهلك زهير برّو، أن “ذوي الدخل المحدود ربّما حسّنوا قدرة رواتبهم بنحو 10 بالمئة، فيما الهدف الحقيقي للمنصة في مكان آخر”. ويشرح لـ”المدن”، أن التدقيق في نتائج المنصة، يوصل إلى “ثلاثة أسباب رئيسية وجدت المنصة لتحقيقها. أولاً توفير الدولار لكبار التجّار. ثانياً إيهام الناس بجوٍّ إيجابي تخلقه المنصة ليكون دلالة على الدور الذي لا غنى عنه لحاكم المصرف المركزي، وثالثاً هو نشر الضبابية حول مصير دولارات المصرف المركزي، إذ تؤدّي المنصة دوراً في إخفاء حجم الدولارات المهدورة، لأنها تُبرِّر اختفاءها بحجة الدعم وضبط السوق”.
لا لزوم للمنصّة
مهما كان الهدف من خلق المنصّة بريئاً، فإن نتائجها تعلن ضرورة إلغائها لأنها “أثبتت فشلها ولا لزوم لبقائها”، وفق ما يقوله لـ”المدن”، الخبير الاقتصادي باتريك مارديني، الذي يؤكّد أن على الحاكم “اعتماد سعر السوق السوداء”.
لا يدافع مارديني عن السوق السوداء، بل لأن خلق فجوة بين سعر المنصة وسعر السوق، وتوسيع هامش الأسعار بين المكانين، وفجائية تغيُّر الأسعار، “تزيد الفجوة المالية لدى المركزي، وتخسّره المزيد من احتياطاته بالدولار، ولا تضبط سعر السوق، وهو الهدف الرئيسي للمنصة التي باتت تساهم في خلق تقلّبات حادة، تشجّع على المضاربة وتزيد من هروب المستثمرين الذين يتطلّعون إلى ثبات الأسعار. ولذلك لا جدوى من المنصة”.
أيضاً، فإن استمرار العمل بالمنصة يحتّم على المصرف المركزي طباعة الليرة بكميات إضافية وضخّها في السوق، وهو ما يزيد معدّلات التضخّم. لكن المركزي ينظر إلى المسألة من منظار مختلف، وهو تأمين آلية إعادة شراء الدولار من السوق عبر تلك الليرات.
تشابك الحلول
لا تقوى الدولة على إيجاد حلول صحيحة. بل تتّجه إلى خلق تعقيدات تؤخّر الحل، وذلك عن طريق ربط الملفّات ببعضها البعض بشكل يستحيل معه البدء من نقطة محدّدة. في حين “يمكن تفكيك العناوين الكبيرة إلى عناوين أصغر، والبدء بها”. وبذلك، يعتبر مارديني أن “الازمة النقدية يمكن حلّها بسهولة ووقف انهيار الليرة بدءاً من وقف المركزي لعملية طباعتها”.
وعلى مقياس أكبر، يفصّل مارديني الأزمة الكبرى إلى أزمات صغرى هي “الأزمة المصرفية، ومن ضمنها عدم استعادة أموال المودعين. والأزمة الاقتصادية وما يتّصل بها من إقفال للشركات وتسريح الموظفين وغياب الاستثمار.. بالإضافة إلى أزمة الدين العام، وفيها عجز الدولة وتخلّفها عن سداد ديونها. إلى جانب أزمة القطاعات، ومنها الكهرباء. فضلاً عن الأزمة النقدية”. ويستغرب مارديني الزج السريع لكل الأزمات “كلّما جرى الحديث عن ضبط سعر الدولار ووقف انهيار الليرة. فحينها يبدأ الحديث عن إعادة هيكلة القطاع المصرفي وهيكلة القطاع العام.. وما إلى ذلك”.
أمام التعقيدات الكبيرة، يواجه الجمهور ارتفاع أسعار السلع وعودة دولار السوق إلى مساره التصاعدي. أما منصة صيرفة، فهي ثقب أسود لا يدرك جوهره سوى الحاكم بأمره.