تبدأ اليوم، وتستمر عدة أيام، التحقيقات الأوروبية مع عدد من الشهود في قضية شبهة تبييض أموال على أراض أوروبية مرتبطة بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا وآخرين. مع الإشارة الى انقسام حاد حول تلك التحقيقات بين مشكك بها ومؤيد لها، وبين مهول عليها ومن يتوسم منها شيئاً ما يسهم في انهاء حالة الافلات من العقاب التي تحكم لبنان منذ ما بعد اتفاق الطائف على الأقل. واللافت ان التهويل يأتي تارة من المافيا وطوراً من الميليشيا، كيف ولماذا؟
سبق وصنّف النظام المالي العالمي مصارف لبنان في خانات التعثر والإفلاس
بما أن عدداً من رؤساء مجالس ادارات المصارف ومسؤولين فيها من بين أبرز المدعوين الى الشهادة، فهناك من يحذر من مغبة المساس بالقطاع المصرفي ووضعه في دوائر الشبهات، منبهاً من خطورة امكان قطع البنوك المراسلة العلاقة مع تلك البنوك، وبالتالي توقف التحويلات للاستيراد والتعاملات التي لا بد منها ليبقى لبنان متصلاً بالنظام المالي العالمي. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل على القضاء اللبناني كما الأوروبي تجاهل تحويلات بين حسابات رجا سلامة وشقيقه رياض ترى سلطات أوروبية انها استخدمت لتبييض الأموال وبذلك نطمر القضية كأن شيئاً لم يكن، لمجرد أن تاجراً يريد أن يستورد وأن مصرفياً أو سياسياً فاسداً يريد تحويل أموال الى الخارج؟
ألا يعلم المهولون أن مسألة التحويلات والتعاملات مع الخارج لا تحتاج الا لعدد محدود من المصارف وليس الى 43 مصرفاً كما العدد في لبنان؟ لا بل أن مصرفاً واحداً باستطاعته إجراء كل تلك العمليات في الظرف الحالي الذي يعيش فيه الاقتصاد بأرقام هزيلة، بعدما فقد الناتج أكثر من 60% من قيمته. ثم أين هم المهولون مما قامت به قبرص من طرد «مهذب» للمصارف اللبنانية، وما قامت به العراق ايضاً، ومن تحوط منقطع النظير تمارسه معظم بنوك العالم في تعاملاتها مع مصارف لبنان التي قيّمها البنك الدولي كما صندوق النقد كما مؤسسات التصنيف الإئتماني العالمية في خانات التعثر والإفلاس؟ هل حجة البقاء المزعوم على صلة مع النظام المالي العالمي تقضي طمر مخالفات جسيمة كالتي يبحث عنها المحققون الأوروبيون؟ علماً بأن الخضوع للتحقيقات لتبيان النظيف من الفاسد أفضل لغربلة القطاع المصرفي اللبناني واستدامة صلته بالعالم.
بقاء رياض زاد خسائر الأزمة ولم يعالجها كما ادّعى بري وميقاتي
وفي جانب التهويل أيضاً، ان لبنان لا يحتمل الآن امكان اتهام رياض سلامة، لأنه الوحيد العامل على تسيير الأمور النقدية والمصرفية وحتى المالية للدولة والمودعين. وهذا يذكرنا بما قاله رئيس مجلس النواب نبيه بري في الأشهر الاولى للأزمة، عندما طرحت قضية اقالة سلامة، إذ أكد أن اقالته سترفع الدولار مما بين 2500 و3000 ليرة الى 15 ألفاً، فاذا بنا اليوم أمام دولار وصل عتبة الـ 50 الف ليرة! وقال بري أيضاَ في تلك المرحلة ان الأزمة تحتاج الى جهود الجميع بمن فيهم رياض سلامة، كما قال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لاحقاً اننا لا نغير الضباط إبان المعركة عندما سئل عن تغيير الحاكم. فاذا بالأزمة تدخل عامها الرابع من دون اي حلول ناجعة توسمها بري وميقاتي من سلامة، لا بل زادت الخسائر على نحو مضاعف عما كانت عليه عشية تشرين 2019.
ليّ عنق قانون النقد والتسليف لأسباب طائفية ومصلحية غير سوية
أما القول بأن اقالة سلامة أو خروجه بعد انتهاء ولاية حاكميته في تموز المقبل تطرح سؤالاً عويصاً جداً عن خليفته، وانه هو الوحيد القادر على الاستمرار في سدة السلطة النقدية… ففيه الكثير من التهويل أيضاً من عدة زوايا.
الزاوية الأولى ان الرئيس بري يرفض ان يتولى الحاكمية مؤقتاً النائب الأول للحاكم وسيم منصوري (وهو شيعي) لأسباب متصلة بحرص بري المزعوم على المواقع المارونية. والحالة هذه، أين قانون النقد والتسليف من هذا الكلام؟ فالقانون واضح في حالة تعذر تعيين حاكم لجهة تسلم نائبه المهام مؤقتاً، ولم يتطرق الى شيعية الموقع ولا الى مارونيته. كما لم يتطرق الى ما اذا كان الجانب الأميركي سيقبل بهذا وذاك. فحجة «الأميركي» لطالما استخدمها البعض لاطالة عمر سلامة في موقعه لأسباب خاصة به قبل الأميركي. إلى ذلك، هناك تأويلات تذهب حد القول ان بري لا يعبأ بطائفية الموقع بقدر حرصه على بقاء سلامة نفسه في الموقع حتى اشعار آخر، لأسباب يعرفها بري وميقاتي وغيرهما من مريدي رياض.
في السلطة خائفون من خروج سلامة ليس من الحاكمية فقط بل من لبنان
سؤال آخر يطرح نفسه على صعيد ابقاء الحاكم مكانه هو: هل ان من يريد بقاءه من أهل السلطة خائف من تداعيات قضيته وانفتاحها على آفاق ليست بالحسبان لتأتي على عمليات هم أطراف فيها؟ الجواب الأولي ان التحقيقات الأوروبية لا تشمل إلا ما اتصل بعقد شركة «فوري» التي عملت (نظرياً) كشركة وسيطة لتسويق اوراق مالية وسندات دين سيادية وشهادات ايداع في البنك المركزي. فلا مجال هنا مبدئياً لوجود فساد لبعض أهل السلطة. لكن الخائفين لا يفكرون بهذه الطريقة، بل يتحوطون إلى أقصى حد ممكن، كي لا يصلهم اي شرار او غبار من أي صوب كان. وبالتالي يريدون ابقاء سلامة في البلاد سواء كان في الحاكمية او خارجها. وهذا ما يفسر أنهم لم يحركوا ساكناَ يوم طلب القضاء منع سلامة من السفر. فخروج سلامة من لبنان يخيفهم لا محالة، لأنه قد يتفلت من سلطانهم وهيمنتهم ويصبح حراً ربما في ما يقول أو يكتم.
عدة تفسيرات لعرقلة التحقيقات… لكن النتيجة واحدة في معظم الأحوال
بالعودة الى التحقيقات وما تعرض له الوفد القضائي الألماني الاسبوع الماضي من عراقيل أمام وصوله إلى كامل مستندات التحقيق اللبناني مع الأخوين سلامة وآخرين، فان الأمر متصل بعدة تفسيرات. الاول مرتبط بالنصوص القانونية وتأويلاتها في الشكل والمضمون، وما إذا كان يحق لمحقق أجنبي الحصول على المستندات. الثاني ذو علاقة بكلمة سر لدى سياسيين مفادها عرقلة من يريد الذهاب بعيداً في حماسته كي لا يصل الى مبتغاه بسهولة. والثالث صدر من قضاة اتهموا زملاء لهم بأنهم بين من حول أموالاً بعد 17 تشرين 2019 إلى الخارج، ويريدون رد الجميل للقطاع المصرفي في محاولات لإبعاد الكأس المرة عن فمه في هذه القضية الخطيرة. سواء تعاون الجانب اللبناني كما يجب أم بقي متلطياً خلف نصوص وتفاسير وضغوط سياسية مصرفية، فان بين القضاة المحققين الأوروبيين من توصل الى تشكيل قناعة ما، ولا ينقصه الا إصدار اتهامات في مرحلة لاحقة، تعقبها مذكرات جلب واحضار انتربولية اذا اقتضى الأمر.
دعوا سلامة يثبت براءته… فهو يقول: «لا أريد أن أكون كبش محرقتكم»!
أما في الأساس، فرياض سلامة يقول انه براء من كل الاتهامات والحملات التي يتعرض لها، وان هناك من يريده «كبش محرقة». فلنأخذ كلام الحاكم بجدية حرفيته ولو لمرة واحدة، ونتركه يستقيل ويتفرغ للدفاع عن نفسه في قضية باتت عالمية بكل ما للكلمة من معنى. قضية تتوسع لتهدد سمعة لبنان ومصير خروجه من أزماته المالية والنقدية والمصرفية والاقتصادية والإجتماعية الخانقة. لماذا لا يترك سلامة يدافع عن نفسه كما يطلب؟ وتمضي قافلة البلد من دونه الى وجهتها المرجوة مثل الإصلاحات المتهم هو بعرقلتها مع آخرين، والاتفاق النهائي مع صندوق النقد، وبدء تلقي قروض ومساعدات ينتظرها اللبنانيون بفارغ الصبر. أوليس ابقاء الحاكم مكانه عقدة في منشار مع ما لذلك من تداعيات على البلد برمته؟ هل أن مصير أمة متعلق بشخص واحد فقط، أم أن المعنيين بحماية سلامة لا هم لهم سواه وبما يتصل بهم معه وما لديه من اسرار، ولا هم وطنياً لهم لا بالانقاذ المزعوم ولا بترهات الإصلاح والإصلاحيين؟؟
فرصة للطبقة السياسية المتهمة لإبراء ذمتها من كل التلطيخ اللاحق بها
اذا كانت الطبقة السياسية نفسها براء من كل الاتهامات التي تطالها وتطال علاقتها مع رياض سلامة، فالأجدى لها ترك التحقيقات تأخذ مجراها من دون أي عراقيل من أي نوع كان. لا بل بامكانها تسهيل تلك التحقيقات الى أبعد حد ممكن لتشكل افضل باب للبراءة وابراء الذمة من كل ما علق بسمعة هؤلاء من تلطيخ. اما حديث الخوف من تسييس القضاء المحلي واستخدامه لتصفية حسابات بين افراد الطبقة الحاكمة نفسها في سياق النكد والانتقام، فمردود لأصحابه أصحاب النوايا الخبيثة قبل غيرهم، لأنهم هم من يسخر القضاء لمصالحهم وزبانيتهم ومحسوبياتهم، ويجعله مرتهناً في السياسة والطائفية. وليس أدل على ذلك من التعطيل الميليشيوي المسلح للتحقيقات في انفجار المرفأ لمجرد ان قاضياً طلب الاستماع لهذا الوزير او ذلك النائب، أو طلب شهادة ضابط من هنا وموظف من هناك، من حلف المافيا والسلاح.
زعم السيادة يخفي مخاوف لا علاقة لها إلا بأشخاص وجهات تطعن السيادة
أما الزعم ان التحقيقات الأوروبية تمس السيادة فكلام لا طائل منه، ولا يصرف إلا في إطار التهويل والتعطيل ايضاً، لأن لبنان موقع على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وعليه واجب التعاون مع القضاء الدولي إلى أبعد حد ممكن من دون التذرع لا بسيادة ولا بسرية مصرفية، لا سيما في قضايا متهم فيها لبنانيون بتبييض الأموال على أراض أجنبية. يبقى ان سياسيين يخافون من استخدام التحقيقات الاوروبية، بشكل او بآخر، وصولاً الى ابتزاز هذا او ذاك منهم او فرض عقوبات على من يريد الغرب معاقبته. وعلى هذا الصعيد يجدر التذكير بحقيقة أن ليس للتحقيقات سوى هدف واحد هو اثبات ان تبييضاً حصل على أراضيها. وما التذرع بوجود قاض فرنسي بين الوفود القضائية الأوروبية يريد «حشر» أنفه في تحقيقات المرفأ الا التعبير الأدق عن مخاوف أشخاص وجهات عطلت ذلك التحقيق وضربت القضاء وسيادته، ولا تعبأ بالسيادة البتة بقدر اهتمامها بطمس حقيقة انفجار المرفأ بذرائع واهية لم تعد خافية كثيراً على كثيرين، بعدما بدأت تتكشف خيوط عن الأمونيوم وجالبيه ومستخدميه… وما غداً الا لناظره قريب على صعيد فضح حلف المافيا والميليشيا القابض على الأعناق حتى الاختناق!