مصرف لبنان يؤكّد مضاربات المصارف في السوق السوداء

في غمرة انشغال الرأي العام بتداعيات الهزّة الأرضيّة، ومع طغيان أخبار الإضراب المصرفي على سائر الملفّات الاقتصاديّة، مرّ من دون الكثير من الضجيج التعميم الوسيط رقم 662، الصادر عن مصرف لبنان في مطلع هذا الأسبوع. التعميم أعاد التأكيد على مضمون تعميم أساسي سابق صدر في شهر آب 2021، للحد من قدرة المصارف على التدخّل في السوق السوداء، عبر بيع الشيكات مقابل الدولارات النقديّة.

صدور التعميم الوسيط في هذه المرحلة، وإعادة التشديد على بنود التعميم الأساسي السابق، أكّدا متابعة مصرف لبنان لمجموعة من المضاربات التي قامت بها المصارف طوال الفترة السابقة، لجمع الدولارات من السوق، قبل الدخول في مرحلة اعتماد سعر الصرف الجديد المرتفع، الذي يكشف أكثر حجم الخسائر المتراكمة بالميزانيّات بالعملات الأجنبيّة.

أمّا السؤال الأساسي، فيبقى عن سرّ تريّث مصرف لبنان، وإصداره التعميم بعد بداية شهر شباط، أي بعد انتهاء المصارف من عمليّات جمع الدولارات من السوق، التي استبقت البدء بتطبيق سعر الصرف الرسمي الجديد في بداية الشهر الحالي.

التعميم 662 يكشف لعب المصارف في السوق السوداء

تعميم مصرف لبنان تركّز على ثلاث نقاط، ترتبط بمجموعة من الممارسات التي قامت بها المصارف في السوق السوداء خلال المرحلة السابقة:

– أولًا: حظر التعميم على المصارف بيع وشراء الشيكات والحسابات المصرفيّة بالعملات الأجنبيّة أو بالليرة اللبنانيّة، لحسابها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. مع الإشارة إلى أنّ المصارف عملت خلال المرحلة السابقة إلى بيع هذه الشيكات لمصلحة مجموعة من المودعين أو العملاء مقابل دولارات نقديّة، في محاولة لتعزيز احتياطاتها النقديّة بالدولار قدر الإمكان، وتقليص الفارق بين إلتزاماتها وموجوداتها بالعملات الأجنبيّة، قبل بداية شهر شباط الحالي. وبينما ساهم ذلك بتقليص الدولارات المعروضة في السوق الموازية، كانت هذه الممارسات تزيد المعروض النقدي من الليرة، بعد سحب قيمة الشيكات المباعة بالعملة المحليّة، ما أسهم بضرب قيمة الليرة في السوق نتيجة هذه العمليّات.

– ثانيًّا: حظر التعميم إصدار شيكات مصرفيّة بالعملات الأجنبيّة أو الليرة اللبنانيّة بإسم مصرف آخر، إلا إذا تضمّن الشيك إسم المستفيد الذي يقتضي أن تودع قيمة الشيك في حسابه. وهذا البند في التعميم، حاول التعامل مع ظاهرة نشوء سوق سمح بشراء المصارف للشيكات المصرفيّة، تمهيدًا لإعادة بيعها بالدولار النقدي.

– ثالثًا: على المصارف عند إصدار الشيكات المصرفيّة وشيكات مصدّقة بالليرة اللبنانيّة التأكّد، على مسؤوليتها، أن الغاية من إصدار الشيكات هي مشروعة، كتسديد الضرائب والرسوم مثلًا، لا المضاربة على العملة الوطنيّة. وهذا البند من التعميم حاول الحد من عمليّات بيع الشيكات بالليرة، الذي كانت تسهم حصيلته لاحقًا في زيادة الطلب على الدولار الأميركي، نظرًا لمحاولة بائعي الشيكات تحويل مردود عمليّة البيع إلى الدولار في السوق الموازية فورًا لضمان قيمتها.

التوقيت المتأخّر للتعميم بعد بداية شباط

منذ أشهر، كان جميع العاملين في السوق الموازية على علم بنهم المصارف للدولار النقدي، وبسعيها الدؤوب لامتصاص الدولارات من السوق (راجع المدن). وهذا المسعى، اتصل بمحاولة المصارف تقليص مراكز قطعها السلبيّة، أي فارق موجوداتها وإلتزاماتها بالدولار، قبل اعتماد سعر الصرف الرسمي الجديد المرتفع في بداية الشهر الحالي. مع الإشارة إلى أن تعاميم مصرف لبنان تفرض على المصارف معالجة مراكز القطع السلبية ابتداءً من هذا الشهر، وعلى حساب رساميل أصحابها، بشكل متدرّج على مدى السنوات الخمس المقبلة. ولهذا السبب بالتحديد، كانت بداية الشهر الحالي هي اللحظة المفصليّة بالنسبة للمصارف التجاريّة، حيث حاولت امتصاص أكبر قدر ممكن من الدولارات قبل الوصول إلى هذه اللحظة.

باختصار، جاء تعميم مصرف لبنان متأخرًا، بل وربما بات لزوم ما يلزم، بعدما عبرت المصارف الموعد الذي سعت لامتصاص الدولارات قبل الوصول إليه. أي بمعنى أوضح، مع الإشارة إلى أنّ نهم المصارف للدولارات النقديّة كان أحد الأسباب التي أججت ارتفاع سعر الصرف منذ بداية السنة الحاليّة، بما ساهم برفع سعر صرف الدولار من 42 ألف ليرة في بداية السنة، إلى أكثر من 64,700 ليرة اليوم، أي بارتفاع نسبته 54% خلال فترة لا تتجاوز الشهر ونصف الشهر.

في خلاصة الأمر، ما قامت به المصارف على مستوى امتصاص دولارات السوق الموازية، وتعويم موجوداتها من الدولارات قبل اعتماد سعر الصرف الرسمي الجديد، لم يكون سوى نموذج آخر عن التوزيع غير العادل لخسائر القطاع المالي. أو بصورة أوضح، نموذج عن تحميل كلفة خسائر المصرفيّة للمجتمع بأسره، عبر ضرب قيمة العملة المحليّة، التي تتحدد بها قيمة أجور اللبنانيين الشرائيّة. وكما هي العادة، ورغم إصدار التعميم الذي يؤكّد وجود هذه العمليّات المشبوهة، لم يعمد المصرف المركزي إلى التحرّك باتجاه التحقيق في عمليّات المضاربة التي جرت، لتقتصر على التحقيقات الجارية اليوم على صرّافي الصف الثاني فقط.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةأسهم أوروبا ترتفع بفضل نتائج أعمال قوية
المقالة القادمةفارق السعر بالآلاف: الصرّافون القانونيون يضاهون تجار الشنطة “تشبيحاً”