كان يكفي أن تسرب جمعية المصارف “تهويلاً بالاقفال التام الشامل لكامل عملياتها بما في ذلك ماكينات السحب الآلي”، حتى تقف الدولة على رجل واحدة، فيتسارع التحضير السياسي لعقد جلسة تشريعية يقر خلالها مشروع قانون لضبط السحوبات والتحويلات (الكابيتال كونترول).
وقابل التسريب الأول تسريب آخر من جهة برلمانية نافذة لمشروع القانون المذكور عبر مواقع الكترونية ومجموعات واتس آب. فانشغل الجميع منذ مساء أمس الأول في قراءة المشروع وتحليل مواده.
وفي ما يلي أبرز النقاط الإشكالية التى حددتها مصادر تحذر من تشريع الضرورة هذا:
أولاً، أهلاً بكم في حكم البنكوقراطية على الطريقة اللبنانية (حكم البنوك)، إذ لمجرد أن مودعين اثنين ربحا دعويين ضد أحد البنوك (فرنسبنك) بمبلغ 100 ألف دولار تقريباً هو حقهما المطلق بودائعهما، حتى انتفضت جمعية المصارف على قاعدة أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وأعلنت اضراباً مفتوحاً، ألحقته بتهديد الاقفال التام، بحيث يتوقف قبض الرواتب وفتح اعتمادات الاستيراد، وتتقطع السبل بكل من لديه اي معاملة مصرفية من اي حجم كان، وتتوقف صلات لبنان المالية بالخارج!
ثانياً، استجابت السلطات السياسية فوراً، ووعدت بجلسة تشريعية يقر فيها قانون الكابيتال كونترول بغرض وقف دعاوى المودعين ضد البنوك. وفي هذه الاستجابة يتجلى وصف البنكوقراطية المتغلغلة في مفاصل معظم الكتل النيابية والاحزاب والتيارات السياسية. انه انحياز او انتصار لعدد من ملَّاك المصارف مقابل 1,4 مليون مودع على الأقل.
ثالثاً، في مشروع القانون ما ليس على مزاج المصرفيين، ويسعون جاهدين لتعديله، وهو السماح بسحب 800 دولار على الأقل من كل حساب شهرياً مناصفة بالدولار “الفريش” وبالليرة بسعر الدولار في السوق. فالجمعية تؤكد أن هذا المبلغ غير متوفر لدى عدد لا بأس به من البنوك، فعلى النواب التصرف لخفض المبلغ… وإلا!
رابعاً، ليس واضحاً بعد ما اذا كان صندوق النقد سيوافق ام لا على استثناء حسابات “الفريش دولار” من الكابيتال كونترول. فما من ضمانات واضحة تمنع تسرب الدولارات من عدة مصادر الى تلك الحسابات ثم تحول الى خارج لبنان، ما يفرغ القانون من مضمونه، فلا يبقى منه إلا حماية البنوك من الدعاوى.
خامساً، ثمة مخاوف مبررة من مرحلة ما بعد الكابيتال كونترول، لجهة المماطلة في اعادة الهيكلة والرسملة لسنوات يبقى معها النظام المصرفي على النحو القائم حالياً (بنوك زومبي)، إذ لا داعي للعجلة طالما هناك حماية قابلة للتجديد.
سادساً، ستزيد ضوابط السحوبات والتحويلات هوامش ومساحات اقتصاد الكاش هرباً من تلك الضوابط، لا سيما في بلد حدوده غير مضبوطة، وتعتري مرافئه ومطاره ثغرات جمركية وأمنية تاريخية لا تفيد إلا قوى الأمر الواقع.
سابعاً، ليس واضحاً ما اذا كان القانون سيضبط الاستيراد. فما حصل في 2022 كان مفاجئاً ببلوغ الاستيراد أكثر من 19 مليار دولار. فبهذا الحجم يستمر نزيف الدولارات الى الخارج، ما قد يحول دون تحقيق الكابيتال كونترول كل اهدافه.
ثامناً، صحيح أن القانون استثنائي ومؤقت، الا انه يخلو من أي مساءلة ومحاسبة. وسيليه في انبوب الإقرار أيضاً مشروع قانون الانتظام المالي (اطفاء الخسائر، وردّ ما امكن من الودائع) ومشروع قانون اعادة هيكلة المصارف. ففي المشروعين المذكورين تغيب المحاسبة أيضاً، لكأن المطلوب منظومة تشريعية مالية مصرفية متكاملة تؤمن الافلات من العقاب، كما لو أن الودائع فقدت تحت انقاض زلزال وليس بسبب سوء إدارة، أو مخطط احتيالي وفقاً لتوصيف اسباب الأزمة المالية اللبنانية من قبل الامين العام للأمم المتحدة انطونيو غرتيريش والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والبنك الدولي.
تاسعاً، في تشريع الضرورة شرّ بلية مضحك. ففي كل الأزمات المالية في العالم يقر الكابيتال كونترول في الايام الاولى للأزمة، وليس بعد 40 شهراً! فأين هي “الضرورة” التي يتحدثون عنها غير حماية البنوك؟
تبقى الاشارة الى أن حكم البنكوقراطية تجلى منذ الأيام الأولى للأزمة غداة 17 تشرين 2019، عندما اقفلت المصارف ابوابها 13 يوماً، وعندما فتحت مارست كابيتال كونترول غير قانوني وهيركات قاسياً على الودائع بين 60 و85% من قيمتها، ولم تتجرأ اي سلطة نقدية أو سياسية على توقيف البنوك عند حدها منذ ذلك التاريخ حتى تاريخه… والحبل على الجرار!